إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه

          5763- وبه قالَ: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”حَدَّثني“ بالإفراد (إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) الرازيُّ الفرَّاء الحافظُ قال: (أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيُّ، أحدُ الأعلام في الحفظِ والعبادة (عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بنِ الزُّبير (عَنْ عَائِشَةَ ♦ ) أنَّها (قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللهِ صلعم رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ) بضم الزاي وفتح الراء آخره قاف (يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ) بفتح اللام وكسر الموحدة، و«الأعصم»: بالعين والصاد المهملتين، بوزن الأحمر، وفي «مسلم» «أَنَّه يهوديٌّ من بني زُرَيق» (حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ) ثبت قوله: ”أنَّه كانَ“ في رواية أبي ذرٍّ، وفي روايةِ ابن عُيينة في الباب التَّالي «كان يرى أنَّه يأتي النِّساء ولا يأتيهنَّ» [خ¦5765] وحينئذٍ فلا تمسُّك لبعض المبتدعةِ بقوله: إنَّه يخيَّلُ إليه أنَّه يفعلُ الشَّيء وما فعله الزَّاعم أنَّ الحديث باطل لاحتمال أن يخيَّل إليه أنَّه يرى(1) جبريل وليس هو ثمَّة(2)، وأنَّه يُوحى إليه بشيءٍ ولم يُوح إليه بشيءٍ. قال المازريُّ(3): وهذا كلُّه مردودٌ، فقد قام الدَّليلُ على صدقهِ ╕ فيما يبلِّغُه عن الله، وعلى عصمتهِ في التَّبليغ، فما حصل لهُ من ضرر السِّحر ليس نقصًا فيما يتعلَّقُ بالتَّبليغ، بل هو من جنسِ ما يجوزُ عليه من سائرِ الأمراضِ (حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ _أَوْ: ذَاتَ لَيْلَةٍ_) من إضافةِ المسمَّى إلى الاسم، أو ذات مقحمةٍ للتَّأكيد، والشَّكُّ من الرَّاوي (وَهْوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا) أي: لكنَّهُ لم يكُن مُشتغلًا بي بل بالدُّعاء، والمستدرك منه هو قوله: وهو عندي، أو قولهُ: كان يخيَّلُ إليه، أي: كان السِّحر أثَّر في بدنهِ لا في عقلهِ وفهمهِ بحيثُ إنَّه توجَّه إلى الله تعالى ودعا على الوضع الصَّحيح‼ والقانون المستقيم، قاله في «الكواكب الدَّراري» (ثُمَّ قَالَ) صلعم : (يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ) أي: أَعَلِمْتِ (أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ) أي: أجابني فيما دعوته، أو المعنى أجابَني عمَّا سألتُه عنه لأنَّ دُعاءه كان أن يُطلعه على حقيقةِ ما هو فيه لمَّا اشتبه عليه من الأمرِ (أَتَانِي رَجُلَانِ) أي: ملكان، كما عند الطَّبرانيِّ، وعند ابن سعدٍ في رواية منقطعة أنَّهما جبريلُ وميكائيلُ (فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ) جزم الدِّمياطيُّ في «سيرته» بأنَّ الَّذي قعدَ عند رأسهِ جبريل (فَقَالَ أَحَدُهُمَا) وهو جبريل أو ميكائيل، قيل: وهو أصوب (لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟) أي: النَّبيِّ صلعم (فَقَالَ: مَطْبُوبٌ) بالطاء المهملة الساكنة والباءين الموحدتين، أي: مَسحور، قيل: كَنُّوا عن السِّحر بالطِّبِّ تفاؤلًا كما قالوا للَّدِيغ: سَليم (قَالَ: مَنْ طَبَّهُ) من سحرَهُ؟ (قَالَ): طبَّه (لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟) طبَّه (قَالَ: فِي مُشْطٍ) بضم الميم وسكون المعجمة، الآلةُ / الَّتي يسرَّح بها شعر الرَّأس واللِّحية (وَمُشَاطَةٍ) بضم الميم وفتح المعجمة، مخففة، وبعد الألف طاء مهملة، ما يخرُج من الشَّعر عند التَّسريح، وفي حديث ابن عبَّاس من شعر رأسهِ، ومن أسنان مُشْطه، ورواه البيهقيُّ (وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ) بضم الجيم وتشديد الفاء، الغشاءُ الَّذي يكون على الطَّلع، ويُطلق على الذَّكر والأنثى، فلذا قيدَّهُ بقوله: (ذَكَرٍ)(4) بالتَّنوين كنخلةٍ(5) على أنَّ لفظ ذكرٍ صفةٌ للجُفِّ، وللمُستملي: ”جُبّ“ بالموحدة بدل الفاء، وهما بمعنى واحد، وقال القرطبيُّ: إنَّه بالموحدة داخل الطَّلعة إذا خرج منها الكُفْريُّ، قاله شِمْرٌ. وللكُشميهنيِّ: ”وجفِّ“ بالفاء ”طلعة“ بتاء تأنيث منوَّنة (قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ) بفتح المعجمة وسكون الراء، ولمُسلم من رواية ابن نُمير: «في بئرِ ذِيْ أَرْوَان» بالهمزة، وصوَّبهُ أبو عُبيد(6) البكريُّ (فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ صلعم فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ) وعند ابن سعدٍ من حديث ابن عبَّاس «فبعثَ إلى عليٍّ وعمَّار فأمرهُما أن يأتيا البئرَ» وعنده أيضًا في مرسل عمر(7) بن الحكم «فدعا جُبيرَ بن إياس الزُّرقيَّ _وهو ممَّن شهد بدرًا_ فدلَّه على موضعهِ في بئر ذَرْوَانَ فاستخرجَهُ». قال: ويقال: إنَّ الَّذي استخرجَه قيسُ بنُ مُحْصَن الزُّرقيُّ. قال في «الفتح»: ويجمع بأنَّه أعان جُبيرًا على ذلك وباشرَ بنفسهِ فنسبَ إليه، وأنَّ النَّبيَّ صلعم وجَّههُم أولًا ثمَّ توجَّه فشاهدها‼ بنفسهِ (فَجَاءَ(8)) صلعم بعد أنْ رجعَ إلى عائشة (فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ) بضم النون وتخفيف القاف، والحِنَّاء: بكسر الحاء المهملة والمد؛ يعني أنَّ ماء البئر أحمر كالَّذي يُنقع فيه الحنَّاء، يعني أنَّه تغير لرداءتِهِ، أو لما خالطَه ممَّا أُلقي فيه (وَكَأَنَّ رُؤُوسَ نَخْلِهَا رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) في التَّناهي في كراهتهَا وقُبحِ منظرها، وقيل: الشَّياطينُ حيَّاتٌ(9) عرفاءُ قبيحةُ المنظرِ هائلةٌ جدًّا. قالت عائشة: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أَسْتَخْرِجُهُ؟ قَالَ): لا (قَدْ عَافَانِي اللهُ) منه (فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ) بضم الهمزة وفتح المثلثة وكسر الواو المشددة (عَلَى النَّاسِ فِيهِ) وللكُشميهنيِّ: ”منهُ“ (شَرًّا) من تذكيرِ المنافقين السِّحر وتعلُّمه ونحو ذلك فيؤذون المسلمين(10)، وهو من باب تركِ المصلحة خوف المفسدة (فَأَمَرَ بِهَا) صلعم بالبئر (فَدُفِنَتْ. تَابَعَهُ) أي: تابعَ عيسى بنَ يونس (أَبُو أُسَامَةَ) حمَّاد بن أُسامة، فيما وصلهُ المؤلِّف بعد بابين [خ¦5766] (وَأَبُو ضَمْرَةَ) بالضاد المعجمة المفتوحة وإسكان الميم بعدها راء، أنسُ بن عياض اللَّيثيُّ المدنيُّ، فيما وصلهُ المؤلِّف في الدَّعوات [خ¦6391] (وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الرَّحمن بن عبدِ الله بنِ ذكوان. قال في «فتح الباري»: ولم أعرف من وصلها، الثَّلاثة (عَنْ هِشَامٍ) أي: ابن عروة، وعند ابنِ عساكرَ زيادة: ”وَمِشْطٍ وَمُشَاقَةٍ“ أي: بالقاف.
          (وَقَالَ اللَّيْثُ) بن سعدٍ الإمام، ممَّا سبق في «بدء الخلق» [خ¦3268] (وَابْنُ عُيَيْنَةَ) سُفيان، ممَّا وصله بعد باب [خ¦5765] (عَنْ هِشَامٍ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ) «بالقاف» بدل: «الطَّاء»، (يُقَالُ) ولأبي ذرٍّ: ”ويقال“: (المُشَاطَةُ) بالطَّاء (مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ) بضم الميم وكسر المعجمة، أي: سُرِّحَ شعرُ الرَّأس، أو اللِّحية بالمشط (وَالمُشَاقَةُ) بالقاف (مِنْ مُشَاقَةِ الكَتَّانِ) عند تسريحهِ.


[1] في (ب): «رأى».
[2] في (ص): «ثم».
[3] في (م): «قاله الماوردي».
[4] في (م) و(د) زيادة: «وهو بالإضافة وفي رواية».
[5] في (م): «فيهما».
[6] في (م): «عبيدة».
[7] في كل الأصول: «عمران» وهو تصحيف، انظر: «طبقات ابن سعد» (2/197) والفتح، وسيأتي على الصواب.
[8] في (د): «فقال».
[9] في (ص) و(م): «الشيطان حية».
[10] في (ب) و(س): «المؤمنين».