إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لن يدخل أحدًا عمله الجنة

          5673- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) الحكمُ بن نافعٍ قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو ابنُ أبي حمزة (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلم، أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (أَبُو عُبَيْدٍ) بضم العين وفتح الموحدة من غير إضافة لشيءٍ، اسمه: سعدُ بن عبيدٍ الزُّهريُّ (مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن أزهر (بْنِ عَوْفٍ) ابن أخي عبد الرَّحمن بن عوفٍ الزُّهريِّ (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) ☺ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ) واستُشْكلَ بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الزخرف:72] وأُجيب: بأنَّ محملَ(1) الآية على أنَّ الجنَّة تُنَالُ المنازلُ فيها بالأعمالِ؛ لأنَّ درجات الجنَّة متفاوتةٌ بحسبِ تفاوتِ(2) الأعمالِ، وأنَّ محمل(3) الحديث على أصل دخول الجنَّة.
          فإن قلت: إنَّ قوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:32] صريحٌ بأنَّ دخول الجنَّة أيضًا بالأعمال. وأُجيب: بأنَّه لفظ مجملٌ بيَّنه الحديث، والتَّقدير ادخلوا منازلَ الجنَّة وقُصورَها بما كنتُم تعملون، فليس المرادُ أصل الدُّخول، أو المرادُ ادخلوهَا بما كنتُم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضُّله عليكم؛ لأنَّ اقتسام منازل الجنَّةِ برحمته، وكذا أصل دخولها حيثُ ألهمَ العاملينَ ما نالوا به بذلك(4)، ولا يخلُو شيء من مجازاتهِ لعبادِه من رحمته وفضله لا إله إلَّا هو له الحمدُ (قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟) لا ينجِّيك عملُكَ مع عظم قدرهِ (قَالَ) ╕ : (وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ) منه(5) (وَرَحْمَةٍ) وللمُستملي: ”بفضل رحمتهِ“ بإضافة بفضلِ‼ للاحقها، أي: يلبسنيها ويسترني بها مأخوذٌ من غمد السَّيف، وأغمدتُه ألبستُه غمدهُ وغشَّيتُه به. وفي رواية سهيلٍ «إلَّا أنْ يتدَاركني الله برحمتهِ» وفي رواية ابن عونٍ عند مسلمٍ «بمغفرةٍ ورحمةٍ» وقال ابنُ عون بيدهِ هكذا، وأشار على رأسهِ. قال في «الفتح»: وكأنَّه أراد تفسيرَ معنى «يتغمَّدني»(6). وعند مسلمٍ من حديث جابرٍ: «لا يُدْخِل أحدًا منكم عملُه الجنَّة، ولا يجيرهُ من النَّار، ولا أنا إلَّا برحمةٍ من اللهِ» (فَسَدِّدُوا) بالسين المهملة، أي: اقصدوا السَّداد، أي: الصَّواب (وَقَارِبُوا) أي: لا تفرطُوا فتجهدوا أنفسكُم في العبادةِ؛ لئلَّا يُفضي بكم ذلكَ إلى الملالةِ فتتركوا العملَ فتفرطوا، وفي رواية بُسْرِ بن سعيدٍ، عن أبي هريرة _عند مسلمٍ_: «ولكن سدِّدوا»، معنى الاستدراك أنَّه قد يُفهم من نفي المذكور نفيُ فائدة العملِ، فكأنَّه قيل: بل له فائدةٌ وهي أنَّ العملَ علامةٌ على وجود الرَّحمة الَّتي تدخلُ العاملَ، فاعملوا واقصدوا بعملكم الصَّواب، أي: اتِّباع السُّنَّة من الإخلاصِ وغيره؛ ليقبل عملكُم فينزِّل عليكم الرَّحمة، وللحَمُّويي والمُستملي: ”وقرِّبوا“ بتشديد الراء من غير ألف (وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ) بتحتية بعد النون آخره نون توكيد / لفظ نفي بمعنى النَّهي، وللكُشمِيهنيِّ: ”ولا يتمنَّ“ بحذف التحتية والنون بلفظ النَّهي (أَحَدُكُمُ المَوْتَ) زاد في رواية همَّام، عن أبي هُريرة «ولَا يدعُ بهِ من قبل أن يأتيه» وهو قيدٌ في الصُّورتين، ومفهومه: أنَّه إذا دخلَ به لا يمنع من تمنِّيه رضًا بقضاءِ الله ولَا من طلبهِ لذلك(7) (إِمَّا) أن يكون (مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا) أن يكون (مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ) أي: يطلب العُتبى وهو الإرضَاء، أي: يطلب رضَا الله بالتَّوبةِ، وردِّ المظالمِ، وتداركِ الفائت، و«لعلَّ» في الموضعين للرَّجاءِ المجرَّدِ من التَّعليل، وأكثرُ مجيئها في الرَّجاء إذا كان معه تعليلٌ نحو: {وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[البقرة:189].
          وهذا الحديثُ أخرجه مسلم إلى قولهِ: «فسدِّدوا» بطرقٍ مختلفةٍ، ومقصودُ البخاريِّ منه هنا قوله: «ولَا يتمنَّينَّ...» إلى آخره، وما قبله ذكرهُ استطرادًا لا قصدًا.


[1] في (م): «تحمل».
[2] في (د): «مقامات».
[3] في (د): «يحمل».
[4] في (د): «ذلك»، وكذا في «الفتح».
[5] «منه»: ليست في (د).
[6] في (ص) و(م): «تغمدني».
[7] في (ص): «كذلك»، في فتح الباري: «ولا عن طلبه من الله لذلك».