إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك

          5376- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) بن عُيينة قال: (قَالَ الوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ) بالمثلَّثة، المخزوميُّ القرشيُّ المدنيُّ: (أَخْبَرَنِي) بالإفراد، وهو من تأخيرِ الصِّيغة عن الرَّاوي.
          وعند أبي نُعيمٍ في «مستخرجه» والحميدي في «مسنده» عن سفيان، قال: حدَّثنا الوليد بن كثيرٍ (أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ) بفتح الكاف (أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ) بضم العين، ابن عبد الأسد، واسم أبي سلمة: عبد الله (يَقُولُ: كُنْتُ غُلَامًا) دون البلوغ (فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ صلعم ) بفتح الحاء وسكون الجيم في تربيته وتحت نظرهِ.
          وقال في «القاموس»: الحَـُـِجر _مثلَّثة_: المنعُ، وحضنُ الإنسانِ، ونشأ في حِجْرهِ وحَجْره(1)، أي: في حفظهِ وستره.
          وقد كان عمرُ هذا ابن أمِّ سلمة زوج النَّبيِّ صلعم (وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ) بالطاء المهملة والشين المعجمة، أي: تتحرَّك وتمتدُّ (فِي) نواحي (الصَّحْفَةِ) ولا تقتصرُ على موضعٍ واحدٍ، وكان الظَّاهر _كما قال في «شرح المشكاة»_ أن يقال: كنتُ أطيشُ بيدِي في الصَّحفة، فأسندَ الطَّيش إلى اليدِ(2) مبالغةً، وأنَّه لم يكنْ يراعِي أدبَ الأكل (فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلعم : يَا غُلَامُ سَمِّ اللهَ) ندبًا‼ طردًا للشَّيطان ومنعًا له من الأكلِ، وهو سنَّة كفايةٍ إذا أَتى به البعضُ سَقطَ عن الباقين كردِّ السَّلام وتشميتِ العاطسِ لأنَّ المقصودَ من منعِ الشَّيطان من الأكلِ يحصل بواحدٍ. نعم، مع ذلك يستحبُّ لكلِّ واحدٍ، بناءً على ما عليه الجمهورُ من أنَّ سنَّة الكفايةِ كفرضها مطلوبةٌ من الكلِّ لا من البعضِ فقط.
          ويقاسُ بالأكلِ الشُّرب وأقلُّه _كما قال(3) النَّوويُّ_: بسم الله، وأفضلُه ╖ ، لكن قال في «الفتح»: إنَّه لم ير لما ادَّعاه من الأفضليَّة دليلًا خاصًّا. انتهى. فإن تركَه ولو عمدًا في أوَّله قال في أثنائه: بسم الله أوَّله وآخره كما في الوضوء، ولو سمَّى مع كلِّ لقمةٍ فهو أحسنُ حتَّى لا يشغله الشَّره عن ذكرِ الله، فتسميةُ الله تعالى في أوَّله وآخرهِ ترياقٌ وبركةٌ لطعامه. وقال في «الإحياء»: إنَّه يستحبُّ أن يقولَ مع الأولى بسم الله، ومع الثَّانية بسم الله الرحمن، ومع الثالثة ╖ ، وتعقَّبه في «الفتح» بأنَّه لم ير لاستحبابِ ذلك دليلًا. انتهى.
          (وَكُلْ) ندبًا (بِيَمِينِكَ) لأنَّ الشَّيطان يأكل بالشِّمال، ولشرفِ اليمين(4)، ولأنَّه(5) أقوى في الغالب وأمكن، وهي مشتقَّة من اليمن، فهي وما نسبَ إليها وما اشتقَّ منها محمودٌ لغةً وشرعًا ودينًا ويقاسُ عليه الشُّرب. ونصَّ الشَّافعيُّ في «الرِّسالة» و«الأم» على الوجوبِ لورود الوعيدِ في الأكلِ بالشِّمال، ففي «صحيح مسلم» من حديث سلمة ابنِ الأكوع: أنَّ النَّبيَّ صلعم رأى رجلًا يأكلُ بشمالهِ فقال: «كلْ بيمينِكَ» قال: لا أستطيعُ، فقال: «لا استطعتَ» فما رفعَها إلى فيهِ بعدُ.
          (وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) لأنَّ أكلَه من موضعِ يد صاحبهِ سوءُ عِشْرة وترك مودَّة لتقذُّرِ(6) النَّفس لا سيَّما في الإمراق، ولما فيه من إظهارِ الحرص والنَّهم وسوء الأدبِ وأشباهها، فإن كان تمرًا فقد نقلوا إباحةَ اختلاف الأيدِي في الطَّبق. والَّذي ينبغي التَّعميم حملًا على عمومهِ حتَّى يثبتَ دليلٌ مخصِّصٌ.
          قال عمرُ بن أبي سلمة: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي) بكسر الطاء، أي: صفةُ أكلي (بَعْدُ) بالبناء على الضمِّ، أي: استمرَّ ذلك صنيعِي في الأكل.


[1] «وحجره»: ليست في (م).
[2] في (م): «يد».
[3] في (د): «قاله».
[4] في (د): «يأكل بالشمال ويقاس عليه الشرب وأشرب باليمين»، ولعله سبق نظر.
[5] في (د): «لأنها».
[6] في (ج): «لتقزز».