إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: وقال الله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}

          ░4▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين: (وَقَالَ اللهُ تَعَالَى) وسقط لفظ «وقال الله تعالى» لأبي ذرٍّ ({وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ}) خبرٌ في معنى الأمرِ المؤكد كـ {يَتَرَبَّصْنَ} وهذا الأمر على وجه النَّدبِ، أو على وجهِ الوجوب، إذا لم‼ يقبَلِ الصَّبيُّ إلَّا ثَدي أمِّه أو لم يُوجد له ظئرٌ أو كان الأبُ عاجزًا عن الاستئجارِ، أو(1) أرادَ الوالدات المطلَّقات، وإيجابُ النَّفقة والكسوةِ لأجلِ الرَّضاع، وعبَّر بلفظ الخبرِ دون لفظِ الإلزام، كأنْ يقول: وعلى الوالداتِ إرضاعُ أولادهنَّ، كما جاءَ بعدُ وعلى الوارثِ مثلُ ذلك إشارة إلى عدمِ الوجوب ({حَوْلَيْنِ}) ظرف ({كَامِلَيْنِ}) تامَّيْن وهو تأكيدٌ لأنَّه ممَّا يُتسامح فيه، فإنَّك تقول: أقمتُ عند فلانٍ حَوْلين ولم تستكملهما ({لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}) بيانٌ لِمن(2) توجَّه إليه الحُكم، أي: هذا الحُكم لمنْ أرادَ إتمامَ الرَّضاع (إِلَى قَوْلِهِ: {تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة:233]) لا تخفَى عليه أعمالُكم فهو يجازيكُم عليها (وَقَالَ) تعالى: ({وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ}) ومدَّة حملهِ وفطامهِ ({ثَلَاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف:15]) استدلَّ عليٌّ ☺ بهذهِ الآيةِ مع الَّتي في لقمان: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}[لقمان:14] وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} على أنَّ أقل مدَّة الحمل ستة أشهرٍ، وهو _كما قاله ابن كثيرٍ_ استنباطٌ قويٌّ صحيحٌ، ووافقه(3) عليه عُثمان وغيرُه من الصَّحابة ♥ ، فروى محمَّد بن إسحاقٍ عن بعجة(4) بن عبد الله الجُهَنِيِّ قال / : تزوَّج رجلٌ منا امرأةً من جُهينة فولدَتْ لتمامِ ستَّة(5) أشهرٍ، فانطلَقَ زوجها إلى عثمان فذكرَ ذلك له، فبعثَ إليها فلَّما قامتْ لتلبس ثيابَها بكتْ أختها، فقالت: ما يُبكيكِ؟ فوالله ما التبسَ بي أحدٌ من خلقِ الله غيره قطُّ، فيقضِي الله فيَّ ما شاء، فلَّما أتي بها عثمان أمرَ برجمِها، فبلغَ ذلك عليًّا فأتاهُ فقالُ له: ما تصنعُ؟ قال: ولدَت تمامًا(6) لستَّةِ أشهرٍ وهل يكون ذلك؟ فقال له عليٌّ: أمَا تقرأُ القرآنَ؟ قال: بلى. قال: أمَا سمعتَ الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وقال: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فلم تجدْه(7) بقيَ إلَّا ستة أشهرٍ، فقال عثمانُ: والله ما فَطِنت لهذا، عليَّ بالمرأةِ قال: فوجدُوها قد فُرِغ منها. رواه ابنُ أبي حاتم.
          (وَقَالَ) تعالى: ({وَإِن تَعَاسَرْتُمْ}) أي: تضايقتُم فلم ترضَ الأمُّ بما تُرضع به الأجنبيَّة، ولم يَزِد(8) الأب على ذلك ({فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}) فستوجدُ(9) ولا تعوزُ(10) مرضعة غير الأمِّ تُرضعه، وفيه طرفٌ من معاتبةِ الأمِّ على المعاسرةِ، وقوله: {لَهُ} أي: للأب، أي: سيجدُ الأبُ غيرَ مُعاسرة تُرضع له وَلده إنْ عاسرتْهُ أمُّه، وفيه: أنَّه لا يجبُ على الأمِّ إرضاع(11) ولدها. نعم، عليها إرضاعُه اللَّبأ _بالهمزة والقصر_ بأجرةٍ وبدونها(12) لأنَّه لا يعيشُ غالبًا إلَّا به، وهو اللَّبن أوَّل الولادةِ، ثمَّ بعدَه إنْ انفردتْ هي أو أجنبيَّة وجبَ إرضاعُه على الموجودةِ(13) منهما، وله إجبارُ أمتهِ‼ على إرضاع ولدها منه أو من غَيره لأنَّ لبنَها ومَنافعها له بخلافِ الحرَّة ({لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ}) أي: لِيُنفق كلُّ واحدٍ من المُوسر والمُعسر ما بلغَهُ وسعهُ، يريد: ما أُمر(14) به من الإنفاقِ على المطلَّقات والمرضعاتِ ({وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}) أي: ضُيِّق عليه، أي: رزقه الله على قدرِ قُوتِه (إِلَى قَوْلِهِ: {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[الطلاق:6_7]) أي: بعد ضيقٍ في المعيشة سِعَة، وهذا وعدٌ لذي العُسر باليُسر، ووعدُه تعالى حقٌّ وهو لا يخلفُهُ. قال في «فتوح الغيب»: يقال: إنَّه موعدٌ لفقراءِ ذلك الوقت، ويدخلُ فيه فقراءُ الأزواجِ دخولًا أولويًّا.
          (وَقَالَ يُونُسُ) بن يزيد الأَيْليُّ فيما وصَله عبدُ الله بن وهب في «جامعه» (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلم ابن شهابٍ: (نَهَى اللهُ تَعَالَى أَنْ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) في قوله جلَّ وعلا: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ (15)إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}[البقرة:233] (وذَلِكَ أَنْ تَقُولَ الوَالِدَةُ) للوالدِ: (لَسْتُ مُرْضِعَتَهُ) أو تطلب منه ما ليس بعدلٍ من الرِّزق والكسوةِ، وأن تُشغلَ قلبه بالتَّفريط في شأنِ الولَد، وأن تقولَ بعدما ألفها الولَد: اطلبْ له ظِئرًا وما أشبَه ذلك (وَهْيَ أَمْثَلُ لَهُ غِذَاءً) بمعجمتين أولاهما مكسورة(16) (وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ وَأَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْبَى) إِرضاعه (بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهَا) الوالد (مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ اللهُ عَلَيْهِ) من الرِّزق والكسوة (وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أَنْ يُضَارَّ بِوَلَدِهِ) أي: بسبب ولَده (وَالِدَتَهُ فَيَمْنَعَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ) وهي تريدُ إرضاعه (ضِرَارًا لَهَا) منتهيًا (إِلَى) رَضَاع (غَيْرِهَا) فإلى متعلِّقٌ بيمنعها (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) أي: الأبوين (أَنْ يَسْتَرْضِعَا) ظئرًا (عَنْ طِيبِ نَفْسِ الوَالِدِ وَالوَالِدَةِ فَإِنْ) بالفاء، ولأبي ذرٍّ: ”وإن“ (أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ) بينهما (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) في ذلك (بَعْدَ أَنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وتَشَاوُرٍ) سواء زادا على الحَولين أو نَقصا، وهو توسعةٌ بعد التَّحديد، والتَّشاور: استخراج الرَّأي، وذِكره ليكونَ التَّراضي عن تفكُّر فلا يضُرُّ الرَّضيع، فسبحان من أدَّبَ الكبيرَ ولم يُهملِ الصَّغير، واعتبرَ اتِّفاق(17) الأبوين لما للأبِ من النَّسب والولايةِ، وللأمِّ من الشَّفقةِ والعنايةِ.
          ({وَفِصَالُهُ}) قال ابنُ عبَّاس فيما أخرجَهُ الطَّبريُّ: يعني(18): (فِطَامَهُ) بنصبِ الميم(19) في «اليونينيَّة» أي: منعه من شُربِ اللَّبن.


[1] في (ص): «و».
[2] في (ب): «لما».
[3] في (م) و(د): «وافقه».
[4] في كل النسخ: «معمر»، والتصحيح من «تفسير ابن أبي حاتم» والحديث رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط عن بَعْجة بن عبد الله الجهني.
[5] في (ص): «لستة».
[6] في (م) و(د): «تامًا».
[7] في (ب) و(س): «تجد قد».
[8] في (د): «يرض».
[9] في (م): «فستؤجر».
[10] في (م): «يجوز».
[11] في (د): «رضاع».
[12] في (ب): «بدنها».
[13] في (م): «المؤجرة».
[14] في (م) و(د): «أمره».
[15] في (د): «لا يكلف الله نفسًا».
[16] في (ص): «مكسور».
[17] في (ص) و(م): «إنفاق».
[18] في (د): «أي».
[19] في (د): «بالنصب».