إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي أن يتغنى بالقرآن

          5024- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بنُ عيينةَ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّدِ بنِ مسلمٍ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) سقطَ لفظ «ابنِ عبدِ الرَّحمن» لغير أبي ذرٍّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ) بالمعجمة وبعد التحتية الساكنة همزة، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”لنبيٍّ“ (مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ صلعم ) بزيادة لام، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ(1): ”لنبيٍّ(2)“ بإسقاطها، وقولُ الحافظ ابن حجرٍ: إن كانت رواية زيادة اللَّام محفوظة فهي للجنسِ، ووهمَ من ظنَّها للعهدِ، وتوهَّم أنَّ المرادَ نبيُّنا صلعم وشرحهُ على ذلك؛ تعقَّبه(3) العينيُّ فقال: هذا الَّذي ذكرهُ عين الوهمِ، والأصلُ في الألف(4) واللام أن تكون للعهدِ خصوصًا في المفردِ، وعلى ما ذكرهُ يفسدُ(5) المعنى؛ لأنَّه يكون على هذهِ الصُّورة لم يأذنِ الله لنبيٍّ من الأنبياءِ ما أذنَ لجنسِ النَّبيِّ وهذا فاسدٌ. انتهى.
          وأجابَ في «انتقاضِ الاعتراض» بأنَّه إنَّما شرحهُ على روايةِ الأكثرِ، وهي: «ما أذنَ لشيءٍ» بشين معجمة وياء مهموزةٍ، ولا فساد فيه. انتهى.
          وثبتتِ التَّصليةُ لأبي الوقتِ(6)، وقوله: «أَذِنَ» _بفتح الهمزة وكسر الذال المعجمة_ في الماضي وكذا في المضارع مُشْتركٌ‼ بين الإطلاقِ والاستماعِ، تقول: أَذِنْتُ(7) آذَنُ بالمدِّ، فإن أردتَ الإطلاقَ فالمصدر بكسرٍ ثمَّ سكون، وإن أردتَ الاستماعَ(8) فالمصدر بفتحتين؛ أي: ما استمعَ كاستماعهِ لصوتِ نبيٍّ.
          (أَنْ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ) وسقطَ لفظ «أنْ»، عند أبي نُعيم من وجهٍ آخرَ، وصوَّبه ابنُ الجوزيُّ، وقال: إنَّ إثباتها وهمٌ من بعضِ الرُّواة لروايتهم بالمعنَى، فظنَّ المثبِتُ المساواةَ، فوقعَ في الخطأ؛ لأنَّ الحديثَ لو كان بإثباتِ «أنْ» لكان من الإِذْن _بكسر الهمزة وسكون الذال_ بمعنى: الإباحةِ والإطلاقِ، وليس مرادًا هنا، وإنَّما هو من الأَذَن _بفتحتين_ وهو(9) الاستماعُ، والمرادُ بهِ هنا: إجزالُ مثوبةِ القارئ وإكرامهِ، لا حقيقته الَّتي هي أن يميلَ المستمعُ بأُذُنه إلى جهةِ من يسمعهُ؛ إذ هو محالٌ في حقِّه تعالى، فالمرادُ ثمرةُ ذلك على ما لا يخفى.
          (قَالَ(10) سُفْيَانُ) بنُ عيينة _بالسَّند السَّابق_: (تَفْسِيرُهُ) أي: قوله: يتغنَّى (يَسْتَغْنِي بِهِ) عن غيرهِ من الكتب السَّالفة(11)، أو من الإكثارِ من الدُّنيا، وارتضَى ذلكَ أبو عُبيد في «تفسيره»، وقال: إنَّه جائزٌ في كلامِ العربِ، واحتجَّ بقولِ ابنِ مسعودٍ: من قرأ آل عمران فهو غنيٌّ، وقيل: المرادُ به الغنَى المعنوي؛ وهو غنى النَّفس، وهو القناعة، لا المحسوس الَّذي هو ضدُّ الفقر، فإنَّ ذلك لا يحصلُ بمجرَّد ملازمةِ القرآن.
          وقال النَّوويُّ: معناه عند الشَّافعيِّ وأصحابهِ وأكثرِ العلماءِ تحسين الصَّوت به. انتهى.
          ويؤيِّده قوله في الرِّواية السَّابقة [خ¦5023]: وقال صاحب له: يجهرُ بهِ.
          قال الطِّيبي: لأنَّها جملة مبيِّنة لقوله: «يتغنَّى بالقرآن»، وإلا(12) يكن المبيَّن على خلاف البيان، كذلك «يتغنَّى بالقرآن» في الرِّواية الأولى بيان لقوله: «ما أذنَ لنبيٍّ»؛ أي: صوته، فكيف يحملُ على غير حسنِ الصَّوت على أنَّ الاستماعَ ينبو عن الاستغناءِ، وينصرُه الحديثُ المرويُّ بلفظ: «ما أذنَ لنبيٍّ حسنِ الصَّوت بالقرآنِ يجهرُ بهِ».
          قال الشَّافعيُّ: ولو كان معنى «يتغنَّى بالقرآنِ» على الاستغناء لكان يتغانى(13)، وتحسينُ الصَّوت هو يتغنَّى. وتعقَّبه بعضهم فقال: إنَّ في صدقِ(14) الملازمةِ نظرًا إذا ثبت أنَّ «تغنَّى» بمعنى استغنى، وصرَّح بعضهُم بصحَّته كما مرَّ، واستشهدَ بقوله صلعم في الخيلِ: «ورجلٌ ربطها تغنِّيًا وتعفُّفًا» [خ¦2371] ولا خلافَ في هذا أنَّه مصدرُ تغنَّى، بمعنى: استغنى وتعفَّف، ونقل ابنُ الجوزيُّ عن الشَّافعيِّ: أنَّ المراد به التحزُّن، قال في «الفتح»: ولم أرهُ صريحًا، إنَّما قال في «مختصر المزني»: وأحبُّ أن يقرأَ حدرًا وتحزينًا. انتهى.
          والحدرُ‼: الإدراجُ من غير تمطيطٍ، والتَّحزين: رقَّة الصَّوت وتصييره كصوتِ الحزين. وقال ابنُ الأنباريِّ في «الزَّاهر»: المراد بالتَّغني التلذُّذ به، كما يستلذُّ أهل الطَّرب بالغناءِ، فأطلق عليه تغنِّيًا من حيثُ إنَّه يفعل عنده كما يفعلُ عندَ الغناء، وقيل: المرادُ التَّرنُّم به؛ لحديثِ ابن(15) أبي داود والطَّحاوي عن أبي هُريرة: «حسنُ التَّرنُّم / بالقرآنِ».
          قال الطَّبريُّ: والترنُّم لا يكون إلَّا بالصَّوت إذا حسَّنه القارئُ وطرب به، قال: ولو كانَ معناه الاستغناءَ لما كان لذكرِ الصَّوت ولا لذكرِ الجهر معنى. انتهى.
          ويمكن _كما في «الفتح»_ الجمع بين أكثرِ التَّأويلاتِ المذكورةِ، وهو أنَّه يحسِّن به صوته جاهرًا به مترنِّمًا على طريق التحزُّن، مستغنيًا به عن غيرهِ، طالبًا بهِ غنى النَّفس، راجيًا به غنَى اليد.
          ومباحثُ تحسين الصَّوتِ، وحكمِ القراءةِ بالألحان، تأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.


[1] قوله: «عن الكشميهني»: ليست في (د).
[2] قوله: «لنبي»: ليست في (ص).
[3] في (م): «وتعقبه».
[4] في (م) و(د): «بالألف».
[5] في (م): «يفسر».
[6] قوله: «وثبتت التصلية لأبي الوقت»: ليست في (د).
[7] قوله: «أذنت»: ليست في (م) و(د).
[8] في (ص) و(ل) و(م): «الاسم».
[9] زيد في (م): «من».
[10] في (د) و(م): «وقال».
[11] في (م): «السَّابقة».
[12] في (ص) و(م): «فلن»، وفي (س): «فلم».
[13] في (س) و(ل): «لقال يستغني».
[14] في (م): «صدوق».
[15] «ابن»: ليس في (م).