إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه

          4992- وبه قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ ابْنُ عُفَيْرٍ) المصريُّ قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (اللَّيْثُ) بنُ سعدٍ الإمام المصريُّ قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد أيضًا (عُقَيْلٌ) بضم العين، ابنُ خالدٍ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّدِ ابنِ مسلمِ الزُّهريِّ، أنَّه (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بنِ العوَّامِ (أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة، ابن نوفل الزُّهريَّ (وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ) بتنوين «عبدٍ» من غير إضافة إلى شيءٍ (القَارِيَّ) بتشديد التحتية، نسبة إلى القارة بطنٌ من خزيمةَ بنِ مدركة، والقاريُّ لقبٌ(1)، واسمه: أُثيع _بالمثلثة_ مصغَّرًا (حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ) ☺ (يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ) ولأبي ذرٍّ والأَصيليِّ زيادة: ”ابنِ حزامٍ“ وهو أسديٌّ على الصَّحيح (يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ) لا سورةَ الأحزابِ إذ هو غلطٌ (فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلعم ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللهِ صلعم ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ) بهمزة مضمومة وسين مهملة مفتوحة(2) أي: آخذ برأسهِ، أو أواثبه (فِي الصَّلَاةِ، فَتَصَبَّرْتُ) أي: تكلَّفت الصَّبر (حَتَّى سَلَّمَ) أي: فرغَ من صلاتهِ (فَلَبَّبْتُهُ)‼ بفتح اللام وتشديد الموحدة الأولى في الفرع وأصله، وقال عياضٌ: التَّخفيف أعرف (بِرِدَائِهِ) أي: جمعتهُ(3) عليه عند لبَّته لئلَّا ينفلتَ منِّي، وهذا من عمر على عادتهِ في الشِّدة بالأمرِ بالمعروفِ (فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ)ها؟(4) بحذف الضَّمير (قَالَ) وللأَصيليِّ: ”فقال“(5) هشام: (أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللهِ صلعم ) قال عمرُ ☺ : (فَقُلْتُ) له: (كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَـ)ـها، فيه إطلاقُ التَّكذيب على غلبةِ الظَّنِّ، فإنِّه إنَّما فعل ذلك عن اجتهادٍ منه لظنِّه أنَّ هشامًا خالفَ الصَّواب، وساغَ له ذلك لرسوخِ قدمه في الإسلامِ وسابقته، بخلاف هشامٍ، فإنَّه من مسلمةَ الفتح، فخشيَ أن لا يكونَ أتقنَ القراءة، ولعلَّ عمر لم يكن سمعَ حديثَ: «أنزلَ القرآنُ على سبعةِ أحرفٍ» قبل ذلك (فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ) أجرُّه بردائه (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم ، فَقُلْتُ): يا رسولَ الله (إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الفُرْقَانِ) بباء الجر، وللأربعةِ ”سورةَ الفرقانِ“ (عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : أَرْسِلْهُ) بهمزة قطع؛ أي: أطلقه، ثمَّ قال له ╕ : (اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ) بها (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ) ╕ : (اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ القِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي) بها (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ) ولم يقفْ الحافظُ ابن حجرٍ على تعيينِ الأحرف الَّتي اختلفَ فيها عمرُ وهشام من سورةِ الفرقانِ. نعم، جمعَ ما اختلفَ فيهِ من المتواترِ(6) والشَّاذِّ من هذهِ السُّورة، وسبقهُ إلى ذلك ابنُ عبدِ البرِّ مع فوتٍ، ثمَّ قالَ: والله أعلمُ بما أنكرَ منها عمر على هشام وما قرأ به عمرُ(7). ثمَّ قال ╕ تطييبًا لقلبِ عمر؛ لئلا ينكرَ تصويبَ الشَّيئين المختلفين: (إِنَّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) جمع: حرف، مثل فلس وأفلس؛ أي: لغات أو قراءات، فعلى الأول يكون المعنى على أوجه من اللُّغات؛ لأنَّ أحدَ معاني الحرف في اللُّغةِ الوجه. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ}[الحج:11] وعلى الثَّاني يكونُ من إطلاقِ الحرفِ على الكلمةِ مجازًا لكونهِ بعضها(8). (فَاقْرَؤُوْا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي: من الأحرفِ المنزَّل بها(9)، فالمرادُ بالتَّيسر(10) في الآيةِ غير المراد بهِ / في الحديثِ؛ لأنَّ الَّذي في الآيةِ المرادُ بهِ القلَّة والكثرة، والَّذي في الحديثِ ما يستحضرهُ القارئُ من القراءاتِ، فالأوَّل من الكميَّة والثَّاني من الكيفيَّة(11).
          وقد وقعَ لجماعةٍ من الصَّحابة نظيرُ ما وقعَ لعمر مع هشام؛ منها لأبيِّ بنِ كعب مع ابنِ مسعودٍ في سورةِ النَّحل، وعَمرو بن العاص مع رجلٍ في آيةٍ من القرآنِ. رواه أحمد، وابن مسعود مع رجل في سورةِ من آل حم. رواه ابن حبَّان والحاكم، وأمَّا ما رواهُ الحاكمُ عن سمرة رفعه: «أنزلَ القرآنُ على ثلاثةِ أحرفٍ» فقال أبو عبد اللهِ: تواترتِ الأخبارُ بالسَّبعةِ إلَّا في هذا الحديثِ.
          قال أبو شامةَ: يحتملُ أن يكون بعضهُ أنزلَ على ثلاثةِ أحرفٍ كجذوة والرَّهب، أو أرادَ أنزلَ ابتداءً على ثلاثةِ أحرف، ثمَّ زيد‼ إلى(12) سبعة توسعةً على العبادِ، والأكثر أنَّها محصورةٌ في السَّبعة، وهل هي باقيةٌ إلى الآنِ يقرأُ بها أم كان ذلك ثمَّ استقرَ الأمرُ على بعضها؟ وإلى الثَّاني ذهبَ الأكثرُ، كسفيانَ بن عيينةَ وابنِ وهبٍ والطَّبريِّ والطَّحاويِّ، وهل استقرَّ ذلك في الزَّمنِ النَّبويِّ أم بعده؟ والأكثرُ على الأوَّل(13)، واختارهُ القاضِي أبو بكر بن الطَّيب، وابنُ عبدِ البرِّ، وابنُ العربيِّ وغيرهم؛ لأنَّ ضرورةَ اختلافِ اللُّغات ومشقَّةَ نطقهم بغير لغتِهم اقتضَتْ التَّوسعة عليهم في أوَّل الأمرِ، فأذنَ لكلٍّ أن يقرأَ على حرفهِ؛ أي: طريقتهِ في اللُّغة إلى أن انضبطَ الأمرُ وتدرَّبت الألسنُ، وتمكَّن النَّاس من الاقتصارِ على الطَّريقة الواحدةِ، فعارضَ جبريلُ ◙ النَّبيَّ صلعم القرآنَ مرَّتين في السَّنةِ الأخيرةِ، واستقرَّ على ما هو عليه الآن، فنسخَ اللهُ تعالى تلك القراءةَ المأذون فيها بما أوجبهُ من الاقتصارِ على هذهِ القراءةِ الَّتي تلقَّاها النَّاس.
          ويشهدُ له ما عندَ التِّرمذيِّ عن أبيٍّ: أنَّه صلعم قال لجبريل: «إنِّي بُعثتُ إلى أمَّةٍ أميَّة فيهم الشَّيخ الفانِي، والعَجوز الكبيرة، والغُلام. قال: فمرهُم أن يقرؤوا على سبعةِ أحرفٍ» وفي بعضِها كقولهِ: هلمَّ وتعالَ وأقبلْ وأسرعْ واذهب واعجل، لكنَّ(14) الإباحةِ المذكورةِ لم تقع بالتَّشهي؛ أي: أنَّ كلَّ أحدٍ يغيِّر الكلمةَ بمرادفها في لغتهِ، بل ذلكَ مقصورٌ على السَّماع من رسولِ الله صلعم ، كما يشيرُ إليه قولُ كلٍّ من عمرَ وهشامَ: أقرأني النَّبيُّ صلعم . ولئن سلَّمنا إطلاقَ الإباحةِ بقراءةِ المرادفِ ولو لم يُسمع، لكنَّ الإجماعَ من الصَّحابة في زمنِ عثمانَ الموافق للعرضةِ الأخيرةِ يمنعُ ذلك، كما مرَّ.
          واختلفَ في المرادِ بالسَّبعةِ: قال ابنُ العربيِّ: لم يأت في ذلك نصٌّ ولا أثرٌ. وقالَ(15) ابنُ حبَّان: إنَّه اختلفَ فيها على خمسةٍ وثلاثينَ قولًا. قال المنذريُّ: إنَّ أكثرهَا غير مختارٍ، وقال أبو جعفرٍ محمَّد بن سعدانِ النَّحويُّ: هذا من المشكل الَّذي لا يُدرى معناهُ؛ لأنَّ الحرف يأتي لمعانٍ. وعن الخليلِ بن أحمدٍ: سبعُ قراءاتٍ، وهذا أضعفُ الوجوهِ، فقد بيَّن الطَّبري وغيرهُ أنَّ اختلافَ القرَّاء إنَّما هو حرفٌ واحدٌ من الأحرفِ السَّبعة، وقيل: سبعة أنواعٍ، كلُّ نوعٍ منها جزءٌ من أجزاءِ(16) القرآنِ، فبعضها أمرٌ ونهيٌ، ووعدٌ ووعيدٌ، وقصصٌ، وحلالٌ وحرامٌ، ومحكمٌ ومتشابهٌ، وأمثالٌ، وفيه حديثٌ ضعيفٌ من طريقِ ابنِ مسعودٍ، ورواه البيهقيُّ بسندٍ مرسلٍ، وهو قولٌ فاسدٌ، وقيل: سبعُ لغاتٍ لسبعِ قبائل من العربِ متفرِّقة في القرآنِ، فبعضه بلغةِ تميمٍ، وبعضهُ بلغةِ أزدٍ وربيعة، وبعضهُ بلغةِ هوازنَ وبكْرٍ‼، وكذلك سائرُ اللُّغات، ومعانيها واحدةٌ، وإلى هذا ذهبَ أبو عُبيد(17) وثعلب، وحكاهُ ابنُ دريدٍ، عن أبي حاتمٍ، وبعضهم عن القاضِي أبي بكرٍ، وقال الأزهريُّ وابنُ حبَّان: إنَّه المختارُ، وصحَّحه البيهقيُّ في «الشُّعب»، واستنكرهُ ابنُ قتيبةَ، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}[إبراهيم:4].
          وأجيبَ بأنَّه لا يلزمُ من هذهِ الآيةِ أن يكونَ أرسل بلسانِ قريشٍ فقط لكونهم قومهُ، بل أرسلَ بلسانِ جميعِ العربِ، ولا يردُّ عليه كونهُ بعثَ إلى النَّاس كافَّة عربًا وعجمًا؛ لأنَّ القرآنَ أنزلَ باللُّغة العربيَّة، وهو بلَّغه(18) إلى طوائفِ العربِ، وهم يترجمونهُ لغيرِ العربِ بألسنتهم.
          وقال ابنُ الجزريِّ: تتبَّعتُ القراءات صحيحَهَا وشاذَّهَا، وضعيفَهَا ومنكرَهَا؛ فإذا هي ترجعُ إلى سبعةِ أوجهٍ من الاختلافِ(19)، لا تخرجُ عن ذلك، وذلك إمَّا في الحركاتِ بلا تغيُّرٍ في المعنى / والصُّورة؛ نحو: {بِالْبُخْلِ} و{بِالْبَخَلِ}(20) ويحسب بوجهين، أو بتغيُّر في المعنى فقط؛ نحو: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ}[البقرة:37] {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} و▬أَمَةٍ↨ [يوسف:45]، وإمَّا في الحروفِ بتغيُّرِ المعنى لا الصُّورة؛ نحو: {تَبْلُو} و{ تَتْلُوا } [يونس:30]، و{نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} و▬نُنَحِّيك بِبَدَنِكَ↨ [يونس:92]، أو عكسَ ذلك نحو: {بَسْطَةً} و{ بَصْطَةً } [البقرة:247]، أو بتغيُّرهما نحو: {أَشَدَّ مِنكُمْ} و{مِنْهُم}[التوبة:69] و{يَأْتَلِ} و{ تَأَتْلَّ } [النور:22]، و▬فامضوا إلى ذكرِ الله↨ [الجمعة:9]، وإمَّا في التَّقديم والتَّأخير نحو: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} و▬جاءتْ سكرةُ الحقِّ بالموت↨(21)، أو في الزِّيادة والنُّقصان نحو: {وَأوَصَّى}(22) وَ{وَوَصَّى} ▬والذَّكر والأُنثى↨، وإمَّا نحو اختلافِ الإظهارِ والإدغامِ ممَّا يعبَّر عنهُ بالأصولِ، فليسَ من الاختلافِ الَّذي يتنوَّعُ فيه اللَّفظ أو المعنى؛ لأنَّ هذهِ الصِّفات في أدائهِ لا تخرجهُ عن أن يكون لفظًا واحدًا، ولئن فُرضَ فيكون(23) من الأوَّل. انتهى.
          وحديثُ البابِ مضى في «كتاب الخصوماتِ» [خ¦2419].


[1] في (ب) و(س): «لقبه».
[2] قوله: «مفتوحة»: ليس في (د) و(س).
[3] في (ل): «جمعتها».
[4] (ها): ليس في (د).
[5] قوله: «وللأَصيليِّ فقال»: ليس في (د).
[6] في (م) و(ب): «التواتر».
[7] قوله: «ولم يقف الحافظُ ابن حجرٍ... وما قرأ به عمر»: ليس في (د).
[8] في (ب): «بعضًا».
[9] في (د): «أي من المنزل».
[10] في (م): «بالتيسير».
[11] قوله: «فالمراد بالتيسر في الآية... والثاني من الكيفية»: ليس في (د).
[12] في (م): «على».
[13] في (د): «والأول الأكثر».
[14] في (م) و(د): «لأن».
[15] في (د) و(ل): «وقول».
[16] في (د): «أنواع».
[17] في (د) و(م): «عبيدة».
[18] في (م): «يبلغه».
[19] في (د): «الخلاف».
[20] «والبَخَل»: ليست في (ص).
[21] في (د): «سكرة الموت بالحق».
[22] «أوصى»: ليست في (د).
[23] في (د): «يكون».