إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم؟

          6721- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بحاء مهملة مضمومة فجيم ساكنة فراء، السَّعديُّ قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بأمِّه(1) عُلَيَّة (عَنْ أَيُّوبَ) السَّخْتِيانِيِّ (عَنِ القَاسِمِ) بن عاصمٍ (التَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ) بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الدال المهملة بعدها ميم (الجَرْمِيِّ) بفتح الجيم وسكون الراء، أنَّه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى) عبد الله بنِ قيسٍ الأشعريِّ ☺ (وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الحَيَّ مِنْ جَرْمٍ) بفتح الجيم وسكون الراء، و«الحيَّ» بالفتح، ولغير أبي ذرٍّ بالكسرِ (إِخَاءٌ) بكسر الهمزة في أوله وفتح الخاء المعجمة والمدّ؛ أي: صداقة (وَمَعْرُوفٌ) أي: إحسانٌ، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”وكانَ بينَنَا وبينَهُم هَذَا الحيَّ“ فزاد الضَّمير(2) وقدَّمه على ما يعودُ عليه.
          وقال في «الكواكب»: فإن قلتَ: الظَّاهر أن يقال: «بينه» يعني: أبا موسى؛ أي(3): لأنَّ زَهْدَمًا من جَرْم، فلو كان من الأشعريِّين لاستقامَ الكلامُ، قال: وقد تقدَّم على الصَّواب في «باب لا تحلفوا بآبائكم»، حيثُ قال: «كان بين هذا الحيِّ وبين الأشعريين ودٌّ» [خ¦6649] وأجابَ باحتمال أنَّه جعل نفسَه من أتباعِ أبي موسى كواحدٍ من الأشاعرةِ، فأراد بقولهِ: «بيننَا» أبا موسى وأتباعَه، وكأنَّه مولى؛ أي: لم يكن من العربِ الخُلَّص.
          (قَالَ) / زَهْدَم: (فَقُدِّمَ طَعَامٌ) بين يدي أبي مُوسى، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”طعامه“؛ أي: طعامُ أبي موسى (قَالَ: وَقُدِّمَ فِي طَعَامِهِ لَحْمُ دَجَاجٍ، قَالَ: وَفِي القَوْمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللهِ) قبيلةٌ معروفةٌ من قضاعة (أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مَوْلًى) قال الحافظُ ابنُ حجرٍ في «المقدّمة»: لم أعرفْ اسمه، وقد قيل(4): إنَّه زَهْدمٌ الرَّاوي (قَالَ: فَلَمْ يَدْنُ) أي: فلم يقرُب من الطَّعام (فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى) الأشعريُّ: (ادْنُ) اقرَبْ (فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَأْكُلُ مِنْهُ) أي: من جنس الدَّجاج (قَالَ) الرَّجل: (إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا) قَذِرًا (قَذِرْتُهُ) بكسر الذال المعجمة؛ أي: كرهتهُ (فَحَلَفْتُ أَنْ لَا أَطْعَمَهُ أَبَدًا، فَقَالَ) أبو موسى للرَّجل: (ادْنُ) اقرَبْ (أُخْبِرْكَ) بضم الهمزة، والجزم جواب الأمر (عَنْ ذَلِكَ) أي: عن الطَّريق في حلِّ اليمين‼ (أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلعم فِي رَهْطٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ(5)) أطلبُ منه ما يحملنَا وأثقالنَا لغزوةِ العُسْرة (وَهْوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ) بفتح النون والعين المهملة فيهما.
          (قَالَ أَيُّوبُ) السَّخْتِيانِيُّ _بالسَّند السَّابق_: (أَحْسِبُهُ) أي: أحسبُ القاسم التَّميميَّ (قَالَ: وَهْوَ) أي: النَّبيّ صلعم (غَضْبَانُ، قَالَ: وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ) زاد الكُشمِيهنيُّ: ”عليه“ (قَالَ) أبو موسى: (فَانْطَلَقْنَا، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلعم بِنَهْبِ إِبِلٍ) بإضافةِ نهبٍ لما بعده، من غنيمةٍ، وفي رواية أبي بُردة [خ¦4415] أنَّه صلعم ابتاعَ الإبلَ الَّتي حملهُم عليها من سعدٍ، فيجمعُ باحتمال أن تكون الغنيمةُ لمَّا حصلتْ حصل لسعدٍ منها ذلك فاشتراهُ منه صلعم وحملهُم عليه (فَقِيلَ(6): أَيْنَ هَؤُلَاءِ الأَشْعَرِيُّونَ، أَيْنَ هَؤُلَاءِ الأَشْعَرِيُّونَ؟) بالتِّكرار مرَّتين في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية أبي يزيد [خ¦4415](7) «فلمْ ألبثْ إلَّا سُوَيعةً؛ إذ سمعتُ بلالًا يُنادي: أي(8) عبد الله بنَ قيسٍ، فأجبتُه فقال: أجبْ رسولَ الله صلعم يدعوكَ» (فَأَتَيْنَا فَأَمَرَ لَنَا) ╕ (بِخَمْسِ ذَوْدٍ) بالإضافةِ، وفي «المغازي» [خ¦4415] «بستَّةِ أبعِرة» وذكرُ القليلِ لا ينفي(9) الكثيرَ (غُرِّ الذُّرَى) بضم الذال المعجمة وفتح الراء؛ أي: الأسنِمَة (قَالَ: فَانْدَفَعْنَا) أي: سِرنا مُسرعين (فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلعم نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْنَا فَحَمَلَنَا) بفتحات (نَسِيَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَمِينَهُ، وَاللهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا) بسكون اللام (رَسُولَ اللهِ صلعم (10) يَمِينَهُ) أي: أخذنا منه ما أعطَانا في حال غفلتهِ عن يمينهِ من غير أنْ نُذَكِّره بها (لَا نُفْلِحُ أَبَدًا، ارْجِعُوا بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فَلْنُذَكِّرْهُ) بسكون اللام والجزم (يَمِينَهُ، فَرَجَعْنَا) إليهِ (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَيْنَاكَ نَسْتَحْمِلُكَ، فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا، ثُمَّ حَمَلْتَنَا فَظَنَنَّا _أَوْ: فَعَرَفْنَا_) بالشَّكِّ من الرَّاوي (أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ) ولأبي يَعلى من رواية مطَر، عن زَهْدَم: «فكرهنا أن نُنْسيكَها، فقال: واللهِ إنِّي(11) ما نسيتُهَا» وأخرجه مسلمٌ عن الشَّيخ الَّذي أخرجه عنه أبو يَعلى ولم يسقْ منه إلَّا قوله: قال: «والله ما نَسيتُها» (قَالَ: انْطَلِقُوا فَإِنَّمَا حَمَلَكُمُ اللهُ) ╡، فيه إزالةُ المِنَّة عنهم وإضافة النِّعمة لمالكِها الأصليِّ، ولم يردْ أنَّه لا صنعَ له أصلًا في حملهم؛ لأنَّه لو أرادَ ذلك ما قال: (إِنِّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ) أي: على‼ محلوف يمينٍ _كما مرَّ_ فأطلقَ عليه لفظ يمين للملابسة، والمراد: ما شأنهُ أن يكون محلوفًا عليه، فهو من مجازِ الاستعارة، ويجوزُ أن يكون فيه تضمينٌ، ففي النَّسائيِّ: «إذا حلفتَ بيمينٍ»، ورجح الأوَّل بقولهِ: (فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا) لأنَّ الضَّمير في «غيرها» لا يصحُّ عَوْدُه على اليمينِ. وأُجيب بأنَّه يعود على معناها المجازي للملابسة أيضًا. وقال في «النهاية»: الحلفُ هو اليمين، فقوله: «أحلفُ» أي: أعقِدُ شيئًا بالعزم(12)، وقوله: «على يمين» تأكيدٌ لعقدِه وإعلامٌ بأنَّها ليست لغوًا.
          قال في «شرح المشكاة»: ويؤيِّده رواية النَّسائيِّ: «مَا علَى الأرضِ يمينٌ أحلفُ عليهَا...» الحديث. قال: فقوله: «أحلف عليها» صفةٌ مؤكِّدة لليمين، قال: والمعنى: لا أحلفُ يمينًا جزمًا لا لغوَ فيها، ثمَّ يظهرُ لي أمرٌ آخر يكون فعله خيرًا من المضيِّ في اليمين المذكورة(13) (إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ / خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا) أي: كفَّرتها.
          واختُلِف هل كفَّرَ صلعم عن يمينهِ المذكورة، كما اختُلِف هل كفَّرَ في قصَّةِ حلفهِ على شربِ العسل، أو على غشيان ماريةَ، فعن الحسن البصريِّ أنَّه لم يكفِّر أصلًا؛ لأنَّه مغفورٌ له، وإنَّما نزلت كفَّارة اليمين تعليمًا للأمَّة، وتعقِّب بحديث التِّرمذيِّ عن عمر في قصَّةِ حلفهِ على العسلِ أو ماريةَ: «فعاتبهُ اللهُ وجعلَ له كفَّارة يمينٍ» وهذا ظاهرٌ في أنَّه كفَّرَ، وإن كان ليس نصًّا في ردِّ ما ادَّعاه الحسن، ودعوى أنَّ ذلك كلَّه تشريعٌ بعيدٌ(14)، وفي «تفسير القرطبي» عن زيد بن أسلم: أنَّه صلعم كفَّر بعتق رقبةٍ. وعن مقاتل: أنَّه صلعم أعتق رقبةً(15) في تحريم ماريةَ، وقد اختلف لفظ الحديث فقدَّم لفظ الكفَّارة مرَّةً وأخَّرها أُخرى لكن بحرف الواو الَّذي لا يوجب ترتيبًا، نعم ورد في بعض الطُّرق بلفظ «ثمَّ» الَّتي تقتضِي التَّرتيب عند أبي داود والنَّسائيِّ في حديث الباب، ولفظ أبي داود من طريق سعيدِ بن أبي عَرُوبة، عن قتادةَ، عن الحسن: «فكفِّر عن يمينكَ، ثمَّ ائتِ الَّذي هو خير»، وفي حديث عائشة عند الحاكم بلفظ «ثمَّ» وفي حديث أمِّ سلمة عند الطَّبرانيِّ نحوه، ولفظه: «فليكفِّرْ عن يمينهِ، ثمَّ ليفعلْ الَّذي هو خير».
          وإذا عُلِم هذا فليعلمْ أنَّ للكفَّارة ثلاث حالاتٍ: إحداها: قبل الحلفِ فلا يجزئُ(16) اتِّفاقًا، ثانيها(17): بعد الحلف والحنثِ فيُجزئ اتِّفاقًا، ثالثها(18): بعد الحلفِ وقبل الحنثِ، فاختلفَ فيها‼ فقال مالكٌ وسائرُ فقهاء الأمصار إلَّا أبا حنيفةَ: تجزئُ قبله، لكن استثنى الشَّافعيُّ الصِّيام فقال: لا يجزئ إلَّا بعد الحنث؛ لأنَّ الصِّيام من حقوقِ الأبدان، ولا يجوزُ تقديمُها قبل وقتها كالصَّلاة بخلاف العتقِ والكسوةِ والإطعام، فإنَّها من حقوقِ الأموال فيجوز تقديمُها(19) كالزَّكاة، واحتُجَّ للحنفيَّة بأنَّها لمَّا لم تجبْ صارت كالتَّطوُّع، والتَّطوُّع لا يجزئ عن الواجب، وبقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}[المائدة:89] فإنَّ المراد: إذا حلفتُم فحنثتُم، وأجاب المخالفون بأنَّ التَّقدير: فإذا أردتُم الحنث، والخلاف _كما قال القاضي عياض_ مبنيٌّ على أنَّ الكفَّارة لحلِّ اليمين أو لتكفيرِ مأثمها بالحنثِ، فعند الجمهور أنَّها رخصةٌ شرَعَها الله تعالى لحلِّ ما عقدَ من اليمين، فلذلك تجزئُ قَبْلُ وبَعْدُ. نعم استحبَّ مالكٌ والشَّافعيُّ تأخيرَها.
          والحديث مرَّ في مواضعَ كثيرةٍ كـ «الخمس» [خ¦3133] و«المغازي» [خ¦6649] و«الذَّبائح» [خ¦5518] ويأتي إن شاء الله تعالى بعون الله في «التَّوحيد» [خ¦7555].
          (تَابَعَهُ) أي: تابعَ إسماعيلَ بن إبراهيم المعروف بابنِ عُلَيَّة (حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) فيما وصلَه المؤلِّف في «فرض الخُمُس» [خ¦3133] (عَنْ أَيُّوبَ) السَّخْتِيانِيِّ (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) عبد الله بن زيدٍ الجَرْميِّ (وَالقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ الكُلَيْبِيِّ) بضم الكاف وفتح اللام. قال في «الفتح»: وهذه المتابعة وقعتْ في الرِّواية عن القاسم فقط، ولكن زاد حمَّاد ذكر أبي قلابة مضمومًا إلى القاسم. قال: والبخاريُّ لم يدرِك حمَّادًا، فالحديثُ من المعلَّقات(20).
          وبه قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) بن سعيد قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ) بنُ عبد المجيد(21) (عَنْ أَيُّوبَ) السَّخْتِيانِيِّ (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) الجرميِّ (وَالقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ بِهَذَا) الحديث السَّابق.
          وبه قال(22) (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ) وبه قال: (حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) السَّخْتِيانِيُّ (عَنِ القَاسِمِ) التَّميميِّ (عَنْ زَهْدَمٍ بِهَذَا) الحديث أيضًا.


[1] في (ع): «بابن».
[2] في (د): «المضمر».
[3] «أي»: ليست في (د).
[4] في (د): «وقيل».
[5] في (ع): «أتيت أتحمله».
[6] في (ص): «فقال».
[7] «وفي رواية أبي يزيد»: ليست في (ص). قوله أبي يزيد يحرر لعله خطأ فهي رواية بريد.
[8] في (ص) و(د): «أين».
[9] في (ع) و(د): «ينافي».
[10] قوله: «يمينه والله لئن تغفلنا بسكون اللام رسول الله صلعم »: ليس في (ع).
[11] في (د): «إني والله».
[12] في (ص): «بالجزم».
[13] في غير (ع) و(د): «المذكور».
[14] في (ب) و(س): «بعيدة».
[15] «وعن مقاتل أنه صلعم أعتق رقبة»: ليست في (د).
[16] في (ع): «مجزئ»، وفي (ب): «تجزئ».
[17] في (ب) و(س): «ثانيتها».
[18] في (ب) و(س): «ثالثتها».
[19] «فيجوز تقديمها»: ليست في (د).
[20] في (د): «من المتعلقات».
[21] في (د): «بن عبد الحميد».
[22] قوله: «وبه قال» مثبت من (د) و(ع).