التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب قول النبي: «تربت يمينك»، و«عقرى حلقى»

          ░93▒ (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : تَرِبَتْ يَمِينُكِ، وَعَقْرَى حَلْقَى)
          اعلمْ أنَّ (تَرِبَتْ يَمِينُكِ) كلمةٌ جَرت على أَلْسنة العَرب لا يريدون بها الدُّعاء على المخاطب ولا وقوع الأمْر به. وقَال بعضهم: هو دُعاءٌ على الحقيقة؛ فإنَّه قَال لعائشة: (تَرِبَتْ يَمِينُكِ) لأنَّه رَأى الحاجة خيرًا لها، والأوَّل الوَجه، ويعضده مَا ذكره الهَرَويُّ مِن قوله في حديث خُزيمة: ((أنعم صباحًا تربت يداك))، فإنَّ هذا دعاءٌ له وترغيبٌ في استعماله مَا تقدَّمت الوصيَّة به، أَلا تراه لمَّا قال: ((أنعم صباحًا)) عَقبه بقوله: ((تربت يداك))، وكثيرًا ما تُورد العرب ألفاظها (1) ظاهرها الذَّمُّ، وإنَّما يريدون بها المدح كقولهم: لا أبَ لك ولا أمَّ لك، ونحو ذلك، وقول أنسٍ: ((لم يكن رسول الله صلعم فاحشًا ولا سبَّابًا، كان يقول لأحَدنا عند المَعتبة: تربَ جبينك)) فقيل: أراد الدُّعاء له بكثرة السُّجود، وهذا يعضد ما تقدَّم، وأمَّا قوله صلعم لبعض أصحابه: ((تربَ نحرك)) فقُتل شهيدًا، فإنَّه محمولٌ على ظاهره، وقيل: معنى تربتْ يداك: امتلأتْ ترابًا، وقيل: أصابها التراب، وأصله القتيل يقع جبينه عَلى الأرض فيترب، ثمَّ استُعمل استعمال هذه الألفاظ، والأصحُّ فيه وفي مثله مِن هذه الألفاظ أنَّها دُعاءٌ يوصل به الكلام تهويلًا مثل: لا أبًا لك فإنَّ أصله الدُّعاء، لكنَّهم أخرجوه عَن أصله إلى التأكيد تارةً، وإلى التَّعجب والاسْتحسان تارةً، وإلى التَّعظيم والإنكار تارةً.


[1] كذا في الأصل.ولعلها:(ألفاظاً)).