التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب الغيبة

          ░46▒ (بَابُ الغِيبَةِ)
          هي مِن أقبح القبائح وَأكثرها انتشارًا في النَّاس، حتَّى لا يَسلم منها إلَّا القليل مِن النَّاس، وهي ذِكرك الإنسان في غيبته بما يكرهه أو سمعه، وكان صدقًا، فإن كان كَذبًا سُمِّي بهتانًا، وهو عامٌّ، سواءٌ كان ذلك في بدنه أو دينه أو دنياه أو حرمته أو ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو ثوبه أو مشيه أو حركته أو بشاشته أو عبوسته أو طلاقته، أو غير ذلك ممَّا يتعلَّق به سواءٌ ذكرته بلفظك أو كتابتك أو رمزك أو إشارتك بعينك أو يدك أو رأسك، ونحو ذلك. وضابطه أنَّ كلَّ ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم، فهو غيبةٌ محرَّمةٌ، ومِن ذلك أيضًا: المحاكاة بأن يمشي متعارجًا أو متطأطئًا، أو على غير ذلك مِن الهيئات مُريدًا حكاية هيئة مَن ينتقصه بذلك، قاله النَّوويُّ. قال: / وتُباح الغيبة لستَّة أسبابٍ، أحدها: التَّظلُّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلَّم إلى مَن له قدرةً عَلى إنصافه مِن ظالمٍ، فيقول: ظلمني فلانٌ في كذا.
          الثاني: الاستعانة عَلى تغيير المنكر وردِّ العاصي (1) إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلانٌ يعمل كذا، فازجرْه عنه، ونحو ذلك.
          الثالث: الاستثناء (2) بأن يقول للمعني: ظلمني فلانٌ بكذا، فهل له ذلك أم لا؟ وما طريقي في الخلاص منه، ودفع ظلمه عنِّي؟ ونحو ذلك، وكذا قوله: زوجي يفعل معي كذا، أو تقول هي: زوجي يضربني، ويقول لي كذا، فهذا جائزٌ للحاجة، والأحوط أن يقول ما يقول في رجلٍ أو زوجٍ أو والدٍ أو ولدٍ كان مِن أمره كَذا وكَذا، ومع ذلك فالتَّعيين جائزٌ لحديث هند في «الصحيحين»: ((إنَّ أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ)). الحديثَ.
          الرابع: تحذير المسلمين مِن الشرِّ، وذلك مِن وجوه منها: جرح المجروحين مِن الرُّواة والشهود والمصنِّفين، وَذلك جائزٌ بالإجماع، بلْ واجبٌ صونًا للشَّريعة. ومنها الإخبار بغيبةٍ عند المشاورة في مواصلته، وَمنها: إذا رأى مَن يشتري شيئًا معينًا، أو عبدًا سَارقًا أو زَانيًا، ونحو ذلك، فيذكره للمشتري نصيحةً إذا لم يعلمه، لا يقصد الإيذاء والإفساد. ومنها: إذا رأيتَ متفقِّهًا يتردَّد إلى فاسقٍ، أو مبتدعٍ يأخذ منه علمًا، وخفتَ عليه ضرورة (3) فعليه نصيحته ببيان حاله قاصدًا النصيحة.
          ومنها: أن يكون ولاية (4) لا يقوم بها على وجهها لعدم أهليته أو فسقه، فيذكره لمَن له عليه ولايةً؛ ليستبدل به غيره، أو يُلزمه الاستقامة.
          الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته كالخمر، ومصادرة النَّاس، وجناية المكوس، وتولِّي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ولا يجوز بغيره إلَّا بسببٍ آخرٍ.
          السَّادس: التعريف، فإذا كان معروفًا بلقبٍ كالأعمش أو الأعرج، والأزرق والقصير، ونحوها جاز تعريفه به، ويحرُم ذكره به تنقُّصًا، ولو أمكن تعريفه بغيره كان أولى. هذا ملخَّص ما تُباح به الغيبة.
          واعلمْ أنَّ البخاريَّ ترجم الباب بالغيبة، ولم يذكر في الحديث إلَّا النَّميمة، فكأنَّه ☼يشير إلى أنَّها وردت في حديثٍ لكنَّه ليس مٍن شرطه، وقد رواه ابن ماجه / في «سننه»، وحديث ابن عمر، وحديث ابن عبَّاسٍ في الحجِّ: ((وأعراضكم عليكم حرامٌ)) كافٍ في ذلك. وقد أخرج مسلمٌ مِن حديث أبي هريرة: ((أنَّ رسول الله صلعم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذِكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه)). وأخرجه أبو داود والترمذيُّ، والنَّسائيُّ، وحسنَّه الترمذيُّ وصحَّحه. وقال الداوديُّ: إنَّ في الحديث أنَّ النميمة غيبةٌ لأنَّه ينمُّ على الإنسان في غيبته، ففيها الوَجهان، أي الغيبة والنَّميمة. قال: وقيل: هما لغتان، لا تفارق إحداهما الأخرى.


[1] في الأصل:((المعاصي)).
[2] كذا صورتها في الأصل
[3] كذا صورتها في الأصل ولعل الصواب:((ضرره))
[4] صورتها في الأصل:((أولا به))