شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر

          ░3▒ باب: تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ في الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأوَاخِرِ.
          فيه: عَائِشَةُ: (قَالَ(1) صلعم: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ في الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ). [خ¦2017]
          وفيه: أَبُو سَعِيدٍ(2): (قَالَ النَّبيُّ صلعم: وَقَدْ(3) رأيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، فَابْتَغُوهَا في الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، وَابْتَغُوهَا في كُلِّ وِتْرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ، فَاسْتَهَلَّتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَمْطَرَتْ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ في مُصَلَّى النَّبيِّ صلعم لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَبَصُرَتْ عَيْنِيْ، فَنَظَرْتُ(4) إِلَيْهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً). [خ¦2018]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (قَالَ النَّبيُّ صلعم: الْتَمِسُوهَا في الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، في تَاسِعَةٍ تَبْقَى، في سَابِعَةٍ تَبْقَى، في خَامِسَةٍ تَبْقَى). [خ¦2021]
          وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صلعم أيضًا: (هِيَ(5) في الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، في سَبعٍ يَمْضِينَ، أَوْ(6) سَبْعٍ يَبْقَيْنَ، وَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: الْتَمِسُوا(7) في أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ).
          قال الطَّبريُّ: اختلف الصَّحابة والتَّابعون لهم بإحسان في تحديد ليلة القدر بعينها، مع اختلافهم في روايتهم عن النَّبيِّ ◙ حدَّها، قال(8) ابن مسعود: هي ليلة سبع عشرة من رمضان. وقال / عليٌّ وابن مسعود وزيد بن ثابتٍ: هي ليلة تسع عشرة.
          وقال بعضهم: ليلة إحدى وعشرين(9) على حديث أبي سعيدٍ، رُوي ذلك أيضًا عن عليٍّ وابن مسعود، وقال آخرون(10): ليلة ثلاث وعشرين على حديث ابن عمر وابن عبَّاسٍ. ورُوي(11) ذلك عن ابن عبَّاسٍ وعائشة وبلال وقاله مكحول، وقال ابن عبَّاسٍ وبلال(12): هي ليلة أربع وعشرين، وهو قول الحسن وقَتادة، وأحسب الَّذين قالوا هذه المقالة ذهبوا إلى قوله ◙: (التَمِسُوهَا لِسَبعٍ بَقِينَ(13)) أنَّ السَّابعة هي أوَّل اللَّيالي السَّبع البواقي، وهي ليلة أربع وعشرين إذا كان الشَّهر كاملًا، وقال عليٌّ وابن عبَّاسٍ وأبيُّ بن كعب(14) ومعاوية: هي ليلة سبع وعشرين.
          ورُوي عن عمر(15) أنَّه قال: هي في رمضان كلِّه، وروى عبد الله بن بريدة عن معاوية، عن النَّبيِّ صلعم أنَّها آخر ليلة. وقال أيُّوب عن أبي قِلابة: إنَّها تجول في ليالي العشر كلِّها.
          قال الطَّبريُّ: والآثار المرويَّةُ في ذلك عن النَّبيِّ ◙ صحاح، وهي متَّفقة غير مختلفة، وذلك أنَّ جميعها ينبئ عنه ◙ أنَّها في العشر الأواخر، وغير منكرٍ أن تتجوَّل في كلِّ سنةٍ في ليلةٍ من ليالي العشر كما قال أبو قِلابة، وكان معلومًا أنَّه ◙ إنَّما قال في كلِّ ليلةٍ من اللَّيالي الَّتي أمر أصحابه بطلبتها فيها أنَّها كانت عنده في ذلك العام في تلك اللَّيلة، فالصَّواب أنَّها في شهر رمضان دون شهور السَّنة لإجماع الجميع وراثة عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال(16): ((فِي العَشرِ الأواخرِ في وترٍ مِنها)) ثمَّ لا حدَّ في ذلك خاصٌّ لليلةٍ بعينها لا يعدوها إلى غيرها لأنَّ ذلك لو كان محصورًا على ليلةٍ بعينها لكان أولى النَّاس بمعرفتها(17) النَّبيَّ ◙ مع جدِّه في أمرها ليُعرِّفها أمَّته، فلم يعرِّفهم منها إلَّا الدَّلالة عليها أنَّها ليلةٌ طلقةٌ، لا حارَّةٌ ولا باردةٌ، وأنَّ الشَّمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها، ولأنَّ في(18) دلالته أمَّته عليها بالآيات دون توقيفه على ليلةٍ بعينها دليلٌ واضحٌ على كذب من زعم أنَّها تظهر في تلك اللَّيلة للعيون ما لا يظهر في سائر السَّنة من سقوط الأشجار إلى الأرض، ثمَّ رجوعها قائمةً إلى أماكنها، إذ لو كان ذلك حقًّا لم تخف(19) عن بصر من يقوم ليالي(20) السَّنة كلَّها، فكيف ليالي شهر رمضان.
          وأمَّا الَّذي خُصَّت به هذه اللَّيلة من دون سائر اللَّيالي فإنَّها خيرٌ من ألف شهرٍ، يعني بذلك أنَّ عملًا فيها بما يرضى الله ويحبُّه من صلاةٍ ودعاءٍ وشبهه خيرٌ من عمل(21) ألف شهرٍ ليس فيها ليلة القدر، وأنَّه يستجاب فيها الدُّعاء ما لم يدع بإثم أو(22) قطيعة رحم، وقال مالك في قوله ◙: (التَمِسوهَا فِي تَاسِعَةٍ تَبقَى) هي ليلة إحدى وعشرين و(سَابِعةٍ تَبقَى) ليلة ثلاث وعشرين، و(خَامِسةٍ تَبقَى) ليلة خمس وعشرين.
          قال المؤلِّف: وإنَّما يصح معناه وتوافق ليلة القدر وترًا من اللَّيالي على ما ذكر(23) في الحديث إذا كان الشَّهر ناقصًا، فأمَّا إن كان كاملًا فإنَّها لا تكون إلَّا في شفعٍ فتكون التَّاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين، والخامسة الباقية ليلة ستٍّ وعشرين، والسَّابعة الباقية ليلة أربعٍ وعشرين على ما ذكره البخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ، فلا تصادف واحدةٌ منهن وترًا، وهذا يدلُّ على انتقال ليلة القدر كلَّ سنة في العشر الأواخر من وترٍ إلى شفعٍ، ومن شفعٍ إلى وترٍ لأنَّ النَّبيَّ ◙ لم يأمر أمَّته بالتماسها في شهرٍ كاملٍ دون ناقصٍ، بل أطلق على طلبها في جميع شهور رمضان الَّتي قد رتَّبها الله مرَّة على التَّمام، ومرَّة على النُّقصان، فثبت انتقالها في العشر الأواخر كلِّها على ما قاله أبو قِلابة.
          وقول ابن عبَّاسٍ في حديثه: (هِيَ في(24) سَبعٍ يَمضِينَ أَو فِي سَبعٍ يَبقِينَ) هو شكٌّ منه أو من غيره في أيِّ اللَّفظين قال ◙، ودلَّ قوله في الحديث الآخر: (فِي سَابِعةٍ تَبقَى) أنَّ الصَّحيح من لفظ الشَّكِّ قوله: (فِي سَبعٍ يَبقِينَ) على طريقة العرب في التَّأريخ إذا جازوا نصف الشَّهر فإنَّما يؤرِّخون(25) بالباقي منه لا بالماضي، ولهذا المعنى عدُّوا تاسعة تبقى ليلة إحدى وعشرين، ولم يعدُّوها ليلة تسعٍ وعشرين، وعدُّوا سابعة تبقى ليلة أربعٍ وعشرين، ولم يعدُّوها ليلة سبعٍ وعشرين لمَّا لم يأخذوا العدد من أوَّل العشر، وإنَّما كان يكون ذلك لو قال / ◙: (فِي تَاسِعةٍ تَمضِي)، ولَّما قال ◙: (التَمِسوهَا فِي التَّاسِعَةِ والسَّابِعةِ والخَامِسةِ) وكان كلامًا مجملًا يحتمل معاني(26)، وخشي ◙ التباس معناه على أمَّته بَيَّن الوجه المراد منه فقال: (فِي تَاسعَةٍ تَبقَى، وفِي سَابِعةٍ(27) تَبقَى، وفي خَامِسةٍ(28) تَبقَى) ليزول الإشكال في ذلك والله أعلم.
          وقوله: (فَوَكَفَ المَسجِدُ) قال صاحب «الأفعال»: يُقال: وكف المطر والدَّمع والبيت وُكُوفًا ووَكِيفا ووَكَفَانًا: سال.


[1] زاد في (م): ((النبي)).
[2] زاد في (م): ((الخدري)).
[3] في (م): ((لقد)).
[4] في (م): ((نظرت)).
[5] في (م) صورتها: ((حتى)).
[6] زاد في (م): ((في)).
[7] في (ص): ((التمسوها)).
[8] في (م): ((فقال)).
[9] في (ز) و(ص): ((بعضهم: أحد وعشرين)) والمثبت من (م).
[10] في (م): ((مسعود. وآخرون)).
[11] في (م): ((روي)).
[12] زاد في (م): ((أيضًا)).
[13] في (م): ((يبقين)).
[14] في (م): ((الكعب)).
[15] في (م): ((عن ابن عمر)).
[16] زاد في (م): ((هي)).
[17] في (ز) و(ص): ((معرفتها)) والمثبت من (م).
[18] في (م): ((لها، وفي)).
[19] في (م): ((يخفف)).
[20] في (م): ((ليال)).
[21] زاد في (م): ((في)).
[22] في (ز) و(ص): ((أي)) والمثبت من (م).
[23] في (م): ((ذكره)).
[24] قوله: ((في)) زيادة من (م)، وليس في (ص) وبعدها في (ز) و(ص): ((تسع)) والمثبت من (م).
[25] في (ز) و(ص): ((يؤرخوا)) والمثبت من (م).
[26] قوله: ((ولما قال ◙: (التمسوها......) يحتمل معاني)) ليس في (م).
[27] في (م): ((وسابعة)).
[28] في (م): ((وخامسة)).