شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً

          ░5▒ باب: صَلاةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً(1).
          قَالَ(2) الْوَلِيدُ: ذَكَرْتُ لِلأوْزَاعِيِّ صَلاةَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ على ظَهْرِ الدَّابَّةِ، فَقَالَ(3): كَذَلِكَ الأمْرُ عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَنَا(4) الْفَوْتُ(5).
          وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ بِقَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ).
          فيه: ابْن عُمَرَ: (قَالَ النَّبِيُّ صلعم لَنَا(6) لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأحْزَابِ: لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَدْرَكَتْ(7) بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلعم فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ). [خ¦946]
          اختلف العلماء في صلاة الطَّالب على ظهر الدَّابة بعد اتِّفاقهم على جواز صلاة المطلوب راكبًا، فذهبت طائفةٌ(8) إلى أنَّ الطَّالب لا يصلِّي على دابَّته(9) وينزل ويصلِّي(10) بالأرض، هذا قول عطاءٍ والحسن وإليه ذهب الثَّوريُّ والشَّافعيُّ وأحمد وأبو ثورٍ. وقال الشَّافعيُّ: إلَّا في حالةٍ واحدةٍ، وذلك أن يقطع الطَّالبون أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين إليهم، فإذا(11) كان هكذا جاز لهم(12) الإيماء ركبانًا. و(13) ذكر ابن(14) حبيبٍ عن ابن(15) عبد الحكم قال: صلاة الطَّالب بالأرض أولى من الصَّلاة على الدَّواب. وفيها قولٌ ثانٍ، قال ابن حبيبٍ: هو في سعةٍ، وإن كان طالبًا لا(16) ينزل ويصلِّي إيماءً؛ لأنَّه مع عدوِّه لم يصل(17) إلى حقيقة أمنٍ، وقاله مالكٌ وهو مذهب الأوزاعيِّ، وشُرَحْبيل. وذكر الفَزاريُّ عن الأوزاعيِّ قال: إذا خاف الطَّالبون إن نزلوا بالأرض(18) فوت العدوِّ صلَّوا حيث وُجِّهوا على كلِّ حالٍ؛ لأنَّ الحديث جاء أنَّ النصر لا يُرفع ما دام الطَّلب.
          قال المؤلِّف: وطلبتُ(19) قصَّة شُرَحْبِيل بن السِّمْطِ بتمامها لأتبيَّن(20) هل كانوا طالبين أم لا(21)، فذكر الفزاريُّ في «السِّيَر» عن ابن عونٍ(22) عن رجاء بن حَيْوة عن ثابت بن السِّمْطِ، أو السِّمْط بن ثابتٍ، قال: كانوا في سفرٍ في خوفٍ فصلَّوا ركبانًا، فالتفتَ فرأى الأشتر قد نزل للصَّلاة، فقال: خالف خولف به خالف خولف به(23)، فخرج الأشتر في الفتنة. فبان بهذا الخبر(24) أنَّهم كانوا طالبين حين صلَّوا ركبانًا؛ لأنَّ الإجماع حاصلٌ على أنَّ المطلوب لا يصلِّي إلَّا راكبًا، وإنَّما اختلفوا في الطَّالب.
          وأمَّا استدلال الوليد بقصَّة بني قريظة على صلاة الطَّالب راكبًا، فلو وُجد(25) في بعض طرق الحديث أنَّ الَّذين صلَّوا في الطَّريق صلَّوا ركبانًا لكان بيِّنًا في الاستدلال، ولم يحتجْ إلى غيره(26)، ولمَّا لم يوجد ذلك احتمل أن يكون لمَّا أمرهم النَّبيُّ صلعم بتأخير العصر إلى بني قريظة، وقد علم بالوحي أنَّهم لا يأتونها إلَّا بعد مغيب الشَّمس، ووقت العصر فرضٌ، فاستدلَّ أنَّه(27) كما ساغ للَّذين صلَّوا ببني قريظة ترك الوقت وهو فرضٌ ولم يعنِّفهم النَّبيُّ صلعم، فكذلك(28) سوِّغ(29) للطَّالب أن يصلِّي في الوقت راكبًا بالإيماء، ويكون تركه للرُّكوع والسُّجود المفترض كترك الَّذين صلَّوا ببني قريظة الوقت الَّذي هو فرضٌ، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف، قاله المُهَلَّب. قال: وقوله صلعم: (لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيظَةَ)، فإنَّه أراد إزعاج النَّاس إليها لما كان أخبره جبريل(30) أنَّه لم يضع السِّلاح بعدُ، وأمره ببني قريظة.


[1] في (ص): ((إيماءً)).
[2] في (م) و (ق): ((وقال)).
[3] في (م): ((قال)).
[4] في (ق): ((تخوفت)).
[5] في (م): ((تخوفنا الفوت)) مطموسة.
[6] قوله: ((لنا)) ليس في (م).
[7] في (ق) و (م): ((فأدرك)).
[8] قوله: ((طائفة)) ليس في (م).
[9] في (ق): ((الدابة)).
[10] في (م): ((فيصلي)).
[11] في (ق): ((وإذا)).
[12] في (ص): ((فإذا كان هذا هكذا كان لهم)).
[13] زاد في (ق): ((قد)).
[14] زاد في (ي): ((أبي)).
[15] في (ص): ((أبي)).
[16] في (م) و (ق): ((إلا أن))، في (ص): ((الا)).
[17] في (م) و (ق): ((يصر)).
[18] زاد في (م) و (ق): ((للصلاة)).
[19] في (ق): ((وطلب)).
[20] في (ي): ((لأبين)).
[21] قوله: ((أم لا)) ليس في (م) و (ق).
[22] في (ص): ((في السنن عن ابن عوفٍ)).
[23] قوله: ((خالف خولف به)) ليس في (م) و(ق) و(ص). وفي (م) و(ق) بدلها: ((مرتين)).
[24] في (ق): ((الحديث)).
[25] في (ص): ((وجدوا)).
[26] قوله: ((ولم يحتج إلى غيره)) ليس في (م) و (ق).
[27] في (ص): ((أنَّهم)).
[28] في (ق): ((وكذلك)).
[29] في (ق) و (ي) و(ص): ((يسوغ)).
[30] زاد في (ق): ((◙)).