شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل من ترك الفواحش

          ░19▒ باب: فَضْلِ مَنْ تَرَكَ الْفَوَاحِشَ
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللهِ ╡، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ في خَلاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إلى نَفْسِهَا فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ). [خ¦6806]
          وفيه: سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنْ تَوَكَّلَ لي مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ). [خ¦6807]
          قوله صلعم: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ) معناه: يسترهم في ستره ورحمته.
          تقول العرب: أنا في ظلِّ فلانٍ، أي في ستره وكنفه، وتسمِّي العرب الليل ظلًّا لبرده وروحه.
          فدخل في معنى قوله (إِمَامٌ عَادِلٌ): من حكم بين اثنين فما فوقهما؛ لقوله صلعم: ((كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسئولٌ عن رعيَّته)). وروى عبد الله بن عُمَر عن النبيِّ صلعم أنَّه قال: ((المقسطون يوم القيامة على منابر النور عن يمين الرحمن ╡، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولُوا)).
          وقوله: (شَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَاْدَةِ اللهِ) فروى عقبة بن عامرٍ قال: قال رسول الله صلعم: ((عجب ربُّك تعالى لشابٍّ ليس له صبوةٌ)) وفي قوله: (شَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَاْدَة الله) فضل من يسلم من الذنوب وشغل بطاعة ربِّه طول عمره.
          وهذا حجَّةٌ لمن قال: إنَّ الملائكة أفضل من بني آدم؛ لأنَّ الملائكة يسبِّحون الليل والنهار لا يفترون.
          وفيه: فضل البكاء من خشية الله، وفي اشتراطه الخلوة بذلك حضٌّ وندبٌ على أن يجعل المرء وقتًا من خلوته للندم على ذنوبه ويفزع إلى الله تعالى بإخلاصٍ من قلبه، وتضرُّعٍ إليه في غفرانها فإنَّه يجيب المضطر إذا دعاه، وألَّا يجعل خلوته كلَّها في لذَّاته كفعل البهائم التي قد أمنت الحساب والمساءلة عن الفتيل والقطمير على رؤوس الخلائق، فينبغي لمن لم يأمن ذلك وأيقن به أن يطول في الخلوة بكاؤه ويتبرَّم لحياته وتصير الدنيا سجنه لما سلف من ذنوبه.
          روى أبو هريرة عن النبيِّ صلعم أنَّه قال: ((لا يلج النار أحدٌ بكى من خشية الله حتَّى يعود اللبن في الضرع)).
          وروى أبو عِمْرَان عن أبي الجَلْد قال: قرأت في مسألة داود ◙ ربَّه ╡: إلهي ما جزاء من بكى من خشيتك حتَّى تسيل دموعه على وجهه؟ قال: أسلم وجهه من لفح النار وأؤمِّنه يوم الفزع.
          وفيه: فضل الحبِّ في الله ╡، قال مالكٌ ☼: الحبُّ في الله والبغض في الله من الفرائض.
          روى أبو مسعودٍ والبراء بن عازبٍ عن النبيِّ صلعم: أنَّ ذلك من أوثق عُرى الإيمان.
          وروى ثابتٌ عن أنسٍ قال النبيُّ صلعم: ((ما تحابَّ رجلان في الله إلَّا كان أفضلهما أشدَّهما حبًّا لصاحبه))، وروى أبو رَزينٍ قال: ((قال لي النبيُّ صلعم: يا أبا رَزين إذا خلوت فحرِّك لسانك بذكر الله، وحبَّ في الله وأبغض في الله، فإنَّ المسلم إذا زار أخاه في الله تعالى يشيِّعه سبعون ألف ملكٍ يقولون: اللَّهُمَّ وَصَلَه فيك فصِلْه)).
          ومن فضل المتحابَّين في الله أنَ كلَّ واحدٍ منهما إذا دعا لأخيه بظهر الغيب أمَّنَ الملك على دعائه، رواه أبو الدرداء عن النبيِّ صلعم.
          وأمَّا الذي إذا دعته امرأة ذات منصبٍ إلى نفسها فقال: إنِّي أخاف الله. فهو رجلٌ عصمه الله ومنَّ عليه بفضله حتَّى خافه بالغيب فترك ما يهوى لقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:40-41]وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46]. فتفضَّل الله على عباده بالتوفيق والعصمة وأثابهم على ذلك، روى أبو معمرٍ عن سلمة بن نُبَيطٍ عن عبيد بن أبي الجعد، عن كعب الأحبار قال: إنَّ في الجنَّة لدارٌ، درَّةٌ فوق درَّةٍ، ولؤلؤةٌ فوق لؤلؤةٍ، فيها سبعون ألف قصرٍ، في كلِّ قصرٍ سبعون ألف دارٍ، في كلِّ دارٍ سبعون ألف بيتٍ، لا ينزلها إلَّا نبيٌّ أو شهيدٌ أو محكمٌ في نفسه أو إمامٌ عادلٌ، قال سلمة: فسألت عبيدًا عن المحكم في نفسه قال: هو الرجل يطلب الحرام من النساء أو من المال فيعرض له فإذا ظفر به تركه مخافة الله ╡، فذلك المحكم في نفسه.
          وقوله: (رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخفَاهَا) يعني صدقة التطوُّع؛ لأنَّ صدقة الفرض إعلانها أفضل من إخفائها ليُقتَدى به في ذلك ويظهر دعائم الإسلام.
          وقوله: (حَتَّى لَا تَعلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ) إخفاءً بذلك، ومصداق هذا الحديث في قوله ╡: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ}[البقرة:171].
          وقوله: (مَنْ ضَمِنَ لِي مَا بَينَ لَحْيَيْهِ) يريد لسانه (وَمَا بَينَ رِجلَيهِ) يريد فرجه.
          وأكثر بلاء الناس من قبل فروجهم وألسنتهم، فمن سلم من ضرر هذين فقد سلم، وكان النبيُّ صلعم له كفيلًا بالجَّنة.