شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب لم يحسم النبي المحاربين من أهل الردة حتى هلكوا

          ░16▒ باب: لَمْ يَحْسِمِ النَّبيُّ صلعم الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ حَتَّى هَلَكُوا
          فيه: أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَطَعَ الْعُرَنِيِّينَ وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا). [خ¦6803]
          إنَّما لم يحسم النبيُّ صلعم العرنيين _والله أعلم_ لأنَّ قتلهم كان واجبًا بالردَّة، فمحالٌ أن يحسم يد من يطلب نفسه، وأمَّا من وجب قطع يده في حدٍّ من الحدود فالعلماء مجمعون أنَّه لابدَّ من حسمها؛ لأنَّه أقرب إلى البرِّ وأبعد من التلف.
          قال ابن المنذر: وقد روي عن النبيِّ صلعم أنَّه أمر بقطع يد رجلٍ سرق ثمَّ قال: ((احسموها)) وفي إسناده مقالٌ.
          واختلف العلماء في فعل النبيِّ صلعم بالعرنيِّين، فقالت طائفةٌ من السلف: كان هذا قبل نزول الآية في المحاربين، ثمَّ نزلت الحدود بعد ذلك على النبيِّ صلعم ونهي عن المُثلَة فنسخ ذلك حديث العرنيِّين، روي هذا عن ابن سيرين وسعيد بن جبيرٍ وأبي الزناد.
          وقالت طائفةٌ: حديث العرنيِّين غير منسوخٍ، وفيهم نزلت آية المحاربين، وإنَّما فعل النبيُّ صلعم بهم ما فعل قصاصًا؛ لأنَّهم فعلوا بالرعاء مثل ذلك، ذكره أهل السير. وروى محمَّد بن فليحٍ، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهابٍ: أنَّ العرنيِّين قتلوا يسارًا راعي النبيِّ صلعم ثمَّ مثَّلوا به واستاقوا اللقاح.
          وذكر ابن إسحاق قال: حدَّثني بعض أهل العلم عمَّن حدَّثه، عن محمَّد بن طلحة، عن عثمان بن عبد الرحمن قال: ((أصاب رسول الله صلعم في غزوة محاربٍ وبني ثعلبة(1) عبدًا يقال له يسارٌ، فجعله في لقاحٍ له يرعى في ناحية الحمى، فخرجوا إليها، فقدم على(2) النبيِّ صلعم نفرٌ من قيس بعكنة(3) من بجيلة فاستوبئوا وطَحِلُوا، فأمرهم أن يخرجوا إلى اللقاح يشربوا من أبوالها وألبانها، فخرجوا إليها، فلمَّا صحُّوا وانطوت بطونهم عدوا(4) على راعي رسول الله صلعم يسارٍ فذبحوه وغرزوا الشوك في عينيه)) وذكر الحديث.
          وروى أبو عيسى الترمذيُّ: حدَّثنا الفضل بن سهلٍ الأعرج، حدَّثنا / يحيى بن غيلان، حدَّثنا يزيد بن زريعٍ، حدَّثنا سليمان التَّيميُّ عن أنس بن مالكٍ قال: ((إنَّما سمل النبيُّ صلعم أَعْيَن العُرنيِّين؛ لأنَّهم سملوا أَعْيَن الرعاء)). قال أبو عيسى: وهذا حديثٌ غريبٌ.
          قال المؤلِّف: فلمَّا اختلفوا في تأويل هذا الحديث أردنا أن نعلم أيَّ التأويلين أولى فوجدناه قد صحب حديث العرنيِّين عملٌ من الصحابة فدلَّ أنَّه غير منسوخٍ.
          روي عن أبي بكر الصدِّيق ☺ أنَّه حرَّق عبد الله بن إياسٍ بالنار حيًّا لارتداده ومقاتلته الإسلام، وحرَّق عليُّ بن أبي طالبٍ الزنادقة. وقد رأى جماعة من العلماء تحريق مراكب العدوِّ وفيها أسرى المسلمين، ورجموا الحصون بالمجانيق والنيران(5) وتحريق من فيها من الذراري.
          قل المُهَلَّب: وهذا كلُّه يدلُّ أنَّ نهيه صلعم عن المثلة ليس نهي(6) تحريمٍ، وإنَّما هو على الندب والحضِّ، فوجب أن يكون فعل النبيِّ صلعم بالعرنيِّين غير مخالفٍ الآية.
          وذكر ابن المنذر عن بعض أهل العلم قالوا: فحكم النبيِّ صلعم في العرنيِّين ثابتٌ لم ينسخه شيءٌ، وقد حكم الله في كتابه بأحكامٍ فحكم النبيُّ صلعم بها وزاد في الحكم مالم يذكر في كتاب الله، أوجب الله تعالى على الزاني جلد مائةٍ، وأوجب النبيُّ صلعم(7) ذلك وزاد في سنَّته نفي سنةٍ(8)، وأوجب الله تعالى اللعان بين المتلاعنين وفرَّق النبيُّ صلعم بينهما، وليس ذلك في كتاب الله، وألحق الولد بالأمِّ ونفاه عن الزوج وأجمع العلماء على قبوله والأخذ به.
          وحَسَمت الشيء: قطعته. عن صاحب «العين». وفي كتاب «الأفعال» حَسَم العرق حَسْمًا: كواه بالنار لينقطع دمه.


[1] في (ص): ((محارب بني ثعلبة)).
[2] في (ص): ((إلى)).
[3] كذا صورتها في (ز)، وفي (ص): ((بعطية))، وفي المطبوع: ((بعطية من نخيلة)) وفي التوضيح: ((من قريش)).
[4] في (ص): ((غدوا)).
[5] قوله: ((والنيران)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((بذي)).
[7] زاد في (ص): ((عليه)).
[8] في (ص): ((عام)).