شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: الرهن مركوب ومحلوب

          ░4▒ بَابُ الرَّهْنِ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ
          وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، فالرَّهْنُ(1) مِثْلُهُ.
          فِيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ(2): (الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا). [خ¦2511]
          وَقَالَ مَرَّةً: عَنِ النَّبيِّ صلعم: (الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا(3)، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ(4) النَّفَقَةُ). [خ¦2512]
          قال ابنُ المُنْذِرِ: اختلف العلماء فيمَنْ له منفعةُ الرَّهن مِنْ ركوب الظَّهر ولبن الدَّرِّ وغير ذلك، فقالت طائفةٌ: كلُّ ذلك للرَّاهن ليس للمُرتهنِ أنْ ينتفعَ بشيءٍ مِنْ ذلك، رُوِيَ(5) ذلك عن الشَّعْبِيِّ وابنِ سِيرِينَ، وقال النَّخَعِيُّ: كانوا يكرهون ذلك، وهو قول الشَّافعيِّ، فإنَّ للرَّاهن أنْ يركب الرَّهن ويشربَ لبنَهُ بحقِّ نفقته عليه، ويأوي إلى(6) اللَّيلِ إلى المرتهن.
          ورخَّصت طائفةٌ أنْ ينتفع المرتهن مِنَ الرَّهن بالرُّكوب والحلب دونَ سائرِ الأشياء على لفظ الحديث أنَّ الرَّهنَ محلوبٌ ومركوبٌ، هذا قول أحمدَ وإِسْحَاقَ. وقال أبو ثَوْرٍ: إنْ كانَ الرَّاهنُ لا يُنفقُ عليه وتركه في يد المرتهن فأنفق عليه، فَلَهُ ركوبه واستخدامه على ظاهرِ الحديثِ. وذكرَ غير ابنِ المُنْذِرِ عن الأوزاعيِّ، واللَّيْثِ مثله، ولا يجوز عند مالكٍ والكوفيِّين للرَّاهن الانتفاع بالرَّهن وركوبه بعلفه وغلَّته لربِّهِ.
          واحتجَّ الطَّحَاوِيُّ لأصحابه فقال(7): أجمع العلماء على أنَّ نفقةَ الرَّهنِ على الرَّاهن لا على المرتهن، وأنَّه ليس للمرتهن استعمالُ الرَّهن، قال: والحديث مجملٌ لم يبيِّن فيهِ الَّذي يركب ويشرب، فَمِنْ أينَ جاز للمخالف أنْ يجعلَه للرَّاهن دون المرتهن، ولا يجوز حمله على أحدهما إلَّا بدليلٍ.
          قال الطَّحَاوِيُّ: وقد روى هُشَيْمٌ عن زَكَرِيَّا عن الشَّعْبِيِّ عن أبي هريرةَ: عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: ((إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً، فَعَلَى المُرْتَهِنِ عَلَفُهَا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ، وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُ نَفَقَتَهَا وَتُرْكَبُ))، فدلَّ هذا الحديث أنَّ المعنى بالرُّكوب وشرب اللَّبن في الحديث الأوَّل هو المرتهن لا الرَّاهن، فجعل ذلك له، وجُعِلَتِ النَّفَقَةُ عليه بدلًا مِمَّا يُنقصُ منه، وكان هذا، واللهُ أعلمُ، وقتَ كونِ الرِّبا مباحًا، ولم ينهَ حينئذٍ عن قرضٍ جرَّ منفعةً، ولا عن أخذِ الشَّيءِ بالشَّيء وإنْ(8) كانا غير متساويين، ثُمَّ حُرِّم الرِّبا بعد ذلك، وحُرِّم كلُّ قرضٍ جرَّ منفعةً، ونُهِيَ عن أخذِ الشَّيء بالشَّيء إنْ كانا غير متساويين(9)، وحُرِّمَت أشكال ذلك(10) كلُّها، وَرُدَّتِ الأشياءُ المأخوذة إلى أبدالها المساوية لها، وحُرِّمَ بيع اللَّبن في الضَّرع، ودخل في ذلك النَّهي عنِ النَّفقة الَّتي مَلَكَ بها المنفقُ لبنًا في الضَّرع، وتلك النَّفقة غير موقوف على مقدارها، واللَّبن كذلك أيضًا.
          فارتفع بنسخ الرِّبا أنْ تجب النَّفقة على المرتهن بالمنافع الَّتي تجب له عوضًا منها، وباللَّبن الَّذي يحتلبه فيشربه.
          ويُقال لمَنْ جوَّز للرَّاهن استعمال الرَّهن: أيجوز للرَّاهن أنْ يرهن دابَّةً هو راكبها؟ فلا يجد بُدًّا مِنْ أنْ يقولَ: لا، فيُقال له: فإذا كان الرَّهن لا يجوز إلَّا أن يكونَ محلًّا بينه وبين المرتهن فيقبضه ويصير في يده دون الرَّاهن، كما وصف اللهُ تعالى الرَّهن بقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[البقرة:283]، فقد ثبت أنَّ دوامَ القبض في الرَّهن لابُدَّ منه إذا كان الرَّهنُ إنَّما هو وثيقةٌ في يدِ المرتهن بالدَّين.
          وقد أجمعت الأُمَّةُ أنَّ الأَمَةَ الرَّهن لا يجوز للرَّاهن أنْ يطأها، فكذلك لا تجوز له خدمتها، وقد حدَّثنا فهدٌ قال: حدَّثنا أبو نُعَيْمٍ، حدَّثنا الحَسَنُ بن صَالِحِ، عن إِسْمَاعِيْلَ بن أبي خالدٍ، عن الشَّعْبِيِّ قال: لا ينتفع مِنَ الرَّهنِ بشيءٍ، فهذا الشَّعْبِيُّ روى الحديث وأفتى بخلافه، ولا يجوز عليه ذلك إلَّا وهو عنده منسوخٌ.
          وقال ابنُ القَاسِمِ عن مالكٍ: إذا خلَّى المرتهن بين الرَّاهن وبين الرَّهن يركبه أو يُعِيْرُهُ أو يسكنه لم يكن رهنًا، وإذا(11) أجَّره المرتهن بإذن الرَّاهن أو أعاره لم يخرج مِنَ الرَّهن، والأجرة لِرَبِّ الرَّهن، ولا يكون الكِرَاءُ رهنًا(12) إلَّا أْن يشترط المرتهن، فإنِ اشترط في البيع أنْ يرتهنَ ويأخذَ حقَّهُ مِنَ الكِرَاءِ، فإنَّ مالكًا كرهه، وإنْ كانَ البيعُ وقعَ بهذا الشَّرطِ إلى أجلٍ معلومٍ، فإنَّ ذلك يجوز عند مالكٍ(13) في الدُّور والأرضين، وكرهه في الحيوان(14) والثِّياب، إذ لا يُدرى كيف يرجع إليه، وكرهه في القرض؛ لأنَّه يصيرُ سلفًا جَرَّ منفعةً.
          وقالَ الكوفيُّون: إذا أجَّرَ المرتهنُ الرَّهنَ بإذنِ الرَّاهن أو أجَّره الرَّاهنُ بإذنِ المرتهن، فقد خرج مِنَ الرَّهنِ.
          وحكم الضَّالَّة مخالفٌ لحكم الرَّهن عند مالكٍ وغيره، قال مالكٌ: إذا أنفقَ على الضَّالَّة مِنَ الإبل والدَّوابِّ، فله أنْ يرجعَ بذلك على صاحبها إذا جاء، وإنْ أنفقَها بغيرِ أمرِ السُّلطان، وله أنْ يحبسَ ذلك بالنَّفقة، ولا(15) يقدر على صاحبِها، ولابُدَّ مِنَ النَّفقةِ عليها، والرَّهن(16) يأخذ راهنه بنفقته، فإنْ غابَ رفعَ ذلك إلى الإمام.
          وقال أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ: إنْ أنفقَ بغير أمر القاضي، فهو متطوِّعٌ، وإنْ أنفقَ بأمر القاضي، فهو دَيْنٌ على صاحبها.


[1] في المطبوع: ((والرَّهن)).
[2] في المطبوع: ((أنَّه كان يقول)).
[3] في المطبوع: ((وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا)).
[4] في المطبوع: ((يشرب ويركب)).
[5] في المطبوع: ((وروي)).
[6] في المطبوع: ((في)).
[7] في المطبوع: ((وقال)).
[8] في المطبوع: ((إنْ)).
[9] قوله: ((وَنُهِيَ عَنْ أَخْذِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ إِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَسَاوِيَيْنِ)) ليس في (ز).
[10] قوله: ((ذلك)) ليس في (ز).
[11] في المطبوع: ((فإذا)).
[12] في المطبوع: ((رهينة)).
[13] في المطبوع: ((فَإِنَّ ذَلكَ عِنْدَ مَالِكٍ يَجُوْزُ)).
[14] في المطبوع: ((الدَّوابِّ)).
[15] في المطبوع: ((إذ لايقدر)).
[16] في المطبوع: ((والمرتهن)).