عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الصلح مع المشركين
  
              

          ░7▒ (ص) باب الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ حكمِ الصلح مَعَ المشركين.
          (ص) فِيهِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ.
          (ش) أي: في هذا الباب يُروى شيءٌ عَن أبي سفيان _يعني: في (باب الصلح مَعَ المشركين) _ مثل الذي مرَّ في شأن هرقل، وهو أنَّ هرقل أرسل إليه في ركب مِن قريش في المُدَّة التي مادَّ فيها رسولُ الله صلعم كُفَّارَ قريش... الحديث مرَّ مطوَّلًا في أَوَّل الكتاب، وفيه: (وَنَحنُ منه في مُدَّة لا ندري ما هو صانعٌ فيها؟) وهي مُدَّة الصُّلح بينهم.
          (ص) وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلعم : «ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ».
          (ش) هذا التعليق طرف مِن حديثٍ وصله البُخَاريُّ بتمامه في (الجزية) مِن طريق أبي إدريس الخولانيِّ.
          و(عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ) بن أبي عوفٍ الأشجعيِّ الغطفانيِّ أبو عبد الله، شهد فتح مكَّة مع رسول الله صلعم ، ثُمَّ نزل الشام وسكن دمشق، ومات بحِمْص سنة اثنتين وسبعين.
          قوله: (ثُمَّ [تَكُونُ] هُدْنَةٌ) بِضَمِّ الهاء، وهو الصلح، وفيه المطابقة للترجمة، و(بنو الأصفر) الروم، وقال ابن الأَنْبَارِيِّ: سُمُّوا به لأنَّ جيشًا مِنَ الحبشة غلب على بلادهم في وقتٍ، فوطِئَ نساءهم، فولدت أولادًا صُفرًا بين سواد الحبشة وبياضِ الروم.
          (ص) وَفِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ.
          (ش) أي: وفي الباب رُوِيَ عن (سَهْلِ بْنِ حُنَيْف) ابن واهبٍ الأنصاريِّ الأوسيِّ، أبو ثابت، ويروى: <وفيه سهلُ بنُ حُنَيْف> بدون كلمة (عَن).
          هذا التعليق أيضًا طرفٌ مِن حديثٍ وصله البُخَاريُّ في آخر (الجِزية) قال: حدَّثنا عَبْدَان: أخبرنا أبو حمزة قال: سمعت الأَعْمَش قال: سألت أبا وائل: شهدتَ صفِّين؟ قال: نعم، فسمعتُ سهل بن حُنَيْف يقول: (اتِّهموا رأيكم، رأيتُني يومَ أبي جندلٍ، فلو أستطيع أن أردَّ أمر النَّبِيِّ صلعم ؛ لرددتُه...) الحديث، وسَهْل بن حُنَيْف شهد بدرًا والمشاهِدَ كلَّها مع رسول الله صلعم ، مات بالكوفة سنة ثمانٍ وثلاثين، وصلَّى عليه عليُّ بن أبي طالبٍ ☺ وكبَّر سِتًّا.
          ووقع في رواية أبي ذرٍّ والأصيليِّ كذا: <وفيه عن سهلِ بن حُنَيْف: لقد رأيتنا يوم أبي جندل> ولم يقع هذا في رواية غيرِهما، و(أبو جَندَل) اسمه العاص بن سُهَيل بن عَمْرو، قُتل مع أبيه بالشام، وقال المَدَائِنيُّ: قُتِلَ سُهَيل بن عَمْرو باليرموك، وقيل: مات في طاعون عَمواس.
          قوله: (اتَّهِمُوا رأيكم) يخاطب به سهلُ بن حُنَيْف أبا وائلٍ، ومعناه: أنتم أفسدتم رأيكم حيث تركتم رأيَ عليِّ بن أبي طالبٍ ☺ يوم صِفِّين حَتَّى جرى ما جرى.
          قوله: (رَأَيْتُنِي) أي: رأيتُ نفسِي (يومَ أبي جَندَل) وهو اليومُ الذي حَضَرَ أبو جندل [إلى النَّبِيِّ صلعم في يومٍ كان يكتب هو وسُهَيل بن عَمْرو كتاب الصلح، وكان قد حَضَرَ أبو جَندَل] وهو يَرْسفُ في الحديد، وكان قَد أسلم بِمَكَّةَ، وأبوه حبسه وقيَّده، فهرب وجاء إلى النَّبِيِّ صلعم ، فلمَّا رآه أبوه سُهَيل أخذ بتَلْبِيبِه، ويجرُّه ليردَّه إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا مَعشَر المسلمين؛ أَأُرَدُّ إلى المشركين يَفْتِنُوني في ديني؟ فقال رسول الله صلعم : «يا أبا جندل؛ اصبِر واحتسِب، فإنَّ الله ╡ جاعلٌ لك ولِمَن معك مِنَ المستضعفين بِمَكَّةَ فرَجًا ومخرَجًا، وإنَّا قد عقدنا بيننا وبينهم صُلحًا وعهدًا، فإنَّا لا نغدر بهم»، وقيل: إِنَّما ردَّ أبا جندل لأنَّه كان يأمن عليه القتل؛ لحرمة أبيه سُهَيل بن عَمْرو، ومعنى قول سَهْل بن حُنَيْف: فلو أستطيع.... إلى آخره؛ يعني: ما كنتُ أرجع يومئذٍ عَن قتال المشركين، ولكن ما كنتُ أستطيع / أن أردَّ أمرَ رسول الله صلعم ، ولو استطعتُ لرددتُه، وأراد بأمره هذا هو عقده الصلحَ معهم، ولمَّا وقع الصلحُ تأخَّر كلُّ مَن كان في قلبه القتالُ؛ امتثالًا لأمر النَّبِيِّ صلعم .
          (ص) وَأَسْمَاءَ وَالْمِسْوَرِ عَنِ النَّبِيِّ صلعم .
          (ش) أي: وفي الباب أيضًا عَن (أَسْمَاءَ) بنت أبي بكر الصديق، وعن (المِسْوَرِ) بن مَخْرَمَةَ، ويجوز في (أسماء) و(المِسْوَر) الرفع على أن يكون عطفًا على قوله: <وفيه سهلُ بنُ حنيف> على رواية: <سهلُ> بالرفع بدون كلمة (عَن) على ما ذكرنا.
          قوله: (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أي: في ذكرِ الصلح.
          أَمَّا حديث أسماء فكأنَّه أشار به إلى حديثها الذي مضى في (الهبة) في (باب هدية المشركين) : حدَّثنا عُبَيد بن إسماعيل: حدَّثنا أبو أسامة عن هشامٍ، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر ☻ قالت: قَدِمَتْ عليَّ أمِّي وهي مشركة... الحديث، فإنَّ فيه معنى الصلح على ما لا يخفى، وأَمَّا حديث المسورِ بن مَخرَمة فسيأتي في أَوَّل (كتاب الشروط) بعد سبعة أبواب.