عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الفتنة التي تموج كموج البحر
  
              

          ░17▒ (ص) بَابُ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان الفتنة التي تموج كموج البحر، قيل: أشار به إلى ما أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ مِن طريق عاصم بن ضَمْرَة عن عليٍّ ☺ : في هذه الأمَّة خمس فتنٍ... فذكر الأربعة، ثُمَّ فتنةٌ تموج كموج البحر وهي التي يصبح الناس فيها كالبهائم؛ أي: لا عقول لهم.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنة عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
الْحَرْبُ أَوَّلَُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةًٌ                     تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا                     وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ
شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ                     مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ
          (ش) أي: قال سفيان (ابْنُ عُيَيْنة) عن (خَلَفٍ) بالخاء واللَّام المفتوحتين (ابْنِ حَوْشَبٍ) بفتح الحاء المُهْمَلة وسكون الواو وفتح الشين المُعْجَمة وبالباء المُوَحَّدة، كان مِن أهل الكوفة، روى عن جماعةٍ مِن كبار التَّابِعينَ، وأدرك بعض الصحابة لكن لا يُعلَم روايته عنهم، وكان عابدًا مِن عُبَّاد أهل الكوفة، وثَّقه العِجْلِيُّ، وقال النَّسائيُّ: لا بأس به، وأثنى عليه ابنُ عُيَيْنة، وليس له في «البُخَارِيِّ» إلَّا هذا الموضع.
          قوله: (كَانُوا) أي: السلف.
          قوله: (عِنْدَ الْفِتَنِ) أي: عند نزولِها.
          قوله: (وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ) كذا وقع عند أبي ذرٍّ في نسخةٍ، والمحفوظُ أنَّ هذه الأبيات لعمرو بن معديكرِب الزَّبيديِّ، وقد جزم به المبرِّد في «الكامل».
          وتعليق سفيان هذا وصله البُخَاريُّ في «التاريخ الصغير» عن عبد الله بن مُحَمَّد المُسْنَديِّ: حَدَّثَنَا سفيان بن عُيَيْنة.
          قوله: (فَتِيَّةً) بفتح الفاء وكسر التاء المُثَنَّاة مِن فوق وتشديد الياء آخر الحروف، أي: شابَّة، ويجوز فيه ضمُّ الفاء بالتصغير، ويجوز فيه الرفع والنصب، أَمَّا الرفع فعلى أنَّهُ خبرٌ؛ وذلك أنَّ (الحَرْبُ) مبتدأٌ، و(أَوَّلُ مَا تَكُونُ) بدلٌ منه، و(ما) مصدريَّةٌ، و(تكونُ) تامَّة؛ تقديره: أَوَّل كونِها، / و(فتيَّةٌ) خبر المبتدأ، وقال الكَرْمانيُّ: وجاز في «أَوَّل» و«فتيَّة» أربعة أوجهٍ: نصبهما ورفعهما، ونصب الأَوَّل ورفع الثاني، والعكس، و«كان» إمَّا ناقصة وإمَّا تامَّة، ثُمَّ سكت ولم يبيِّن وجه ذلك.
          قُلْت: وجه نصبهما أنَّ يكون (أَوَّلَ) نصبًا على الظرف، و(تكون) ناقصة، و(فتيَّةً) بالنصب خبرها، وقوله: (الحربُ) مبتدأ، و(تَسْعَى) خبره، والتقدير: الحربُ في أَوَّل حالها [تكون فتيَّةً تَسعى، ووجه رفعِهما قد ذكرناه الآن، ووجه نصب الأوَّل ورفع الثاني: أن يكون (الأوَّل) منصوبًا على الظرف، و(فتيَّةٌ) مرفوعًا على الخبريَّة، و(تكونُ) ناقصة، والتقدير: الحربُ في أَوَّل حالها] فتيَّةٌ، ووجه العكس: أن يكون (الأَوَّلُ) مبتدأً ثانيًا أو بدلًا مِن (الحربُ) و(تكونُ) تامَّة، وقد خبط بعضهم في هذا المكان، يَعرفُه مَن يقفُ عليه.
          قوله: (بِزِينَتِهَا) بكسر الزاي وسكون الياء آخر الحروف وبالنون، ورواه سيبويه: (ببزَّتها) بالباء المُوَحَّدة والزاي المشدَّدة، و(البزَّة) اللباس الجيِّد.
          قوله: (حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ) بشينٍ مُعْجَمةٍ وعينٍ مُهْمَلةٍ، يقال: اشتعلت النار؛ إذا ارتفع لهيبها، و(إذا) يجوز أن تكون ظرفيَّة، ويجوز أن تكون شرطيَّة، وجوابها قوله: (وَلَّتْ).
          قوله: (وَشَبَّ) بالشين المُعْجَمة والباء المُوَحَّدة المشدَّدة، يقال: شبَّت الحرب؛ إذا اتَّقدت.
          قوله: (ضِرَامُهَا) بكسر الضاد المُعْجَمة، وهو ما اشتعل مِنَ الحطب.
          قوله: (غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ) بفتح الحاء المُهْمَلة وكسر اللَّام، وهو الزوج، ويروى بالخاء المُعْجَمة، وهو ظاهرٌ.
          قوله: (شَمْطَاءَ) مِنَ الشَّمط _بالشين المُعْجَمة_ اختلاط الشعر الأبيض بالشعر الأسود، ويجوز في إعرابه النصب على أن يكون صفة لـ(عَجُوزًا) ويجوز فيه الرفع على أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ؛ أي: هي شمطاء.
          قوله: (يُنْكَرُ) على صيغة المجهول، و(لَوْنُها) مرفوعٌ به؛ أي: بدل حسنها بقبحٍ، ووقع في رواية الحُميديِّ والسُّهيليِّ في «الروض»:
شمطاء جزَّت رأسَها
          قوله: (مَكْرُوهَةً) نصبٌ على الحال مِنَ الضمير الذي في (تَغَيَّرتْ) والمراد بالتمثيل بهذه الأبيات استحضار ما شاهدوه وسمعوه مِن حال الفتنة، فَإِنَّهُم يتذكَّرون بإنشادها ذلك فيصدُّهم عن الدخول فيها حَتَّى لا يغترُّوا بظاهر أمرها أوَّلًا.