الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر

          ░3▒ (باب: تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ): التَّحَرِّي _بالحاء المهملة وتشديد الرَّاء المكسورة_ مصدرٌ مضافٌ إلى مفعوله بعد حذف فاعله (فِي الْوِتْرِ): أي: في لياليه (مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ): أي: من رمضانَ أشار المصنِّف بهذه التَّرجمة كما في ((الفتح)) إلى رجحانِ كون ليلة القدرِ منحصرةً في رمضان، ثمَّ في العشر الأخيرِ منه، ثمَّ في أوتاره لا في ليلةٍ منه بعينِها، وهذا هو الذي يدلُّ عليه مجموع الأخبار الواردة فيها.
          وقال ابنُ الملقِّن: قال الطبريُّ: أجمعوا أنَّها في وتر العشر الأواخرِ، لكن لا حدَّ في ذلك حاصر لليلةٍ بعينها؛ لأنه لو كان كذلك لكان أَولى الناس بمعرفتِها سيِّد كلِّ الخلق مع اجتهاده في معرفتِها، ولو عرفها لعرَّفَها لأُمَّته مع أنَّه لم يُعرِّفْهم منها إلَّا علاماتٍ لها، قال: وفي ذلك دليلٌ على كذب مَن زعم أنَّها تظهر في تلك اللَّيلة للعيون ما لا يظهرُ في غيرها؛ كسقوط الأشجارِ إلى الأرض، ثمَّ رجوعها نهاراً إلى حالتها الأُولى؛ إذ لو كان ذلك حقًّا لم يخف عن بصر مَن يقوم ليالي السَّنَة كلِّها لا سيما ليالي رمضان، انتهى.
          لكن قال في ((الفتح)): قد ورد لليلة القدر علاماتٌ أكثرها لا يظهر إلَّا بعد مضيِّها منها ما في ((صحيح مسلمٍ)) عن أُبَيِّ بن كعبٍ: ((أنَّ الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاعَ لها))، وفي ورايةٍ لأحمد من حديث أُبَيٍّ: ((مثل الطَّستِ)) ونحوه لأحمدَ عن ابن مسعودٍ وزاد: ((صافية))، ولابن خزيمةَ عن ابن عبَّاسٍ رفعه: ((ليلةُ القدرِ طلقةٌ لا حارَّةٌ ولا باردةٌ تُصبِحُ الشَّمسُ يومَها حمراءَ ضعيفةً))، ولأحمد عن عبادة بن الصَّامت رفعه: ((أنَّها صافيةٌ بلجةٌ كأنَّ فيها قمراً ساطعاً ساكنةٌ صاحيةٌ، لا حرٌّ فيها ولا بردٌ، ولا يحلُّ لكوكبٍ يُرمَى به فيها))، ولابن خزيمة أيضاً عن جابرٍ رفعه في ليلة القدرِ: ((هي ليلةٌ طلقةٌ بلجةٌ، لا حارَّةٌ ولا باردةٌ، تنضَحُ كواكبُها ولا يخرجُ شيطانُهَا حتَّى يضيءَ فجرُها)).
          قال: وذكر الطبريُّ عن قومٍ: أنَّ الأشجارَ في تلك اللَّيلة تسقطُ إلى الأرضِ، ثمَّ تعود إلى منابتها، وأنَّ كلَّ شيءٍ يسجدُ فيها، وروى البيهقيُّ في ((فضائل الأوقات)) من طريق الأوزاعيِّ: أنَّه سمع عبدة بن أبي لبابةَ يقول: إنَّ المياه المالحة تعذب تلك اللَّيلة، انتهى فتأمَّله مع ما في ابن الملقِّن، ثمَّ قال: واختلفوا هل لها علامةٌ تظهر لِمن وقعتُ له أم لا؟ فقيل: يرى كلَّ شيء ساجداً، وقيل: الأنوار في كلِّ مكان ساطعةٌ حتَّى في المواضع المظلمة، وقيل: يسمع سلاماً أو خطاباً من الملائكةِ، وقيل: علامتها استجابةُ دعاءِ مَن وقعت له، واختار الطبريُّ: أنَّ جميع ذلك غيرُ لازم، وأنَّه لا يُشتَرَط لحصولها رؤيةُ شيءٍ ولا سماعه، انتهى فاعرفه.
          (فِيهِ): أي: يدخل في هذا الباب (عُبَادَةُ): بضمِّ العين؛ أي: ابن الصَّامت ☺، ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: <عن عبادة>.
          ويأتي حديثه في البابِ الآتي عقب هذا.