الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت

          2011- 2012- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ): أي: ابن أبي أويسٍ، قال: (حَدَّثَنِي): بالإفراد (مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ): أي: ابن العوَّام، وفي بعضِ الأصولِ: <قال أخبرنِي عروةُ بن الزُّبير> (عَنْ عَائِشَةَ) ♦ (زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم صَلَّى): أي: التَّراويح جماعة ليلتينِ أو ثلاثاً، كما يدلُّ له المقامُ.
          وقولها: (وَذَلِكَ): أي: فعلُ رسول الله الصَّلاة المذكورة (فِي رَمَضَانَ): خبر ((ذلك)) أوردَ المصنِّف هذا الحديثَ في أبوابِ التَّهجد عن عائشة أيضاً بلفظ: إنَّ رسول الله صلعم صلَّى ذاتَ ليلةٍ في المسجدِ، فصلَّى بصلاته ناسٌ، ثمَّ صلَّى من القابلةِ فكثر النَّاس، ثمَّ اجتمعوا من اللَّيلة الثَّالثة أو الرَّابعة، فلم يخرج إليهم رسولَ الله، فلمَّا أصبح قال: ((قد رأيتُ الذي صنعتَم فلم يمنعني من الخروجِ إليكُم إلَّا أنِّي خشيتُ أن تفرضَ عليكم))، وذلك في رمضانَ، انتهى.
          لإقرارهِ عليه الصَّلاة والسَّلام لهم على ذلكَ، وعليه كثيرٌ من الصَّحابة كعليٍّ وابن مسعود وأبيِّ بن كعب وسويدُ بن غفلة وغيرهم، وعلى ذلكَ أيضاً جمهورُ العلماءِ منهم: الشَّافعيُّ وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكيَّة. انتهى.
          وسيأتي هكَذا في الحديثِ بعده، وتقدَّم الكلامُ عليه هناكَ مستوفًى، والمطابقةُ فيه ظاهرةٌ بالتَّقدير الذي ذكرنَاه، وفيهِ دليلٌ على أن فعلهَا جماعةً في المسجدِ أفضل، ولا ينافيهِ أنَّ النَّبيَّ عليه السَّلام لم يخرج إليهم آخر ليلةٍ؛ لأنَّه خافَ من فرضِهَا عليهم، وقد زالَ خوف ما ذكرَ بوفاتهِ عليه السَّلام، وأيضاً بعدما أمر بها عمر، واستمرَّ الأمرُ على ذلك إلى الآن.
          وذهبَ آخرون منهم مالكٌ وأبو يوسف وبعض الشَّافعيَّة إلى أنَّ فعلها فرادى في البيتِ أفضل لمواظبتهِ عليه السَّلام على ذلكَ إلى أن توفِّي، ولم تفعل جماعةً زمن أبي بكر، وصدراً من خلافةِ عمر، ثمَّ أمر أولاً بفعلهَا أحد عشرَ ركعة، وفي روايةٍ: ((ثلاثةَ عشر)) كما تقدَّم، ثمَّ استقرَّ رأيه على عشرينَ، وتقدَّم قريباً تفصيلُ الاختلافِ في عددهَا، وقد أطالَ ابنُ الملقِّن هنا الكلامَ على التَّراويح.
          وبالسند قال: (حَدَّثَنَا): ولأبي ذرٍّ وابن عسَاكر: <وحدَّثني> بالإفراد وواو العطف (يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ): تصغير بكر بالموحدة؛ أي: المخزوميُّ، قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ): بضم العين؛ أي: ابن خالدٍ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) قال: (أَخْبَرَنِي): بالإفراد (عُرْوَةُ): أي: ابن الزُّبير (أَنَّ عَائِشَةَ): وفي بعض الأصولِ: <عن عائشة>.
          (أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم خَرَجَ لَيْلَةً) في رمضانَ؛ أي: من حجرتهِ إلى مسجدهِ الشَّريف (مِنْ): أي في (جَوْفِ اللَّيْلِ): أي: وسطه (فَصَلَّى في المَسْجِدِ): أي: ولم ينتظر الإمامةَ، كما سيأتي في فوائدِ الحديثِ (وصَلَّى) بالواو في هذه، وبالفاء في التي قبلها (رِجالٌ بِصَلاتِهِ): أي: مقتدينَ بهِ فيها (فأصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا): أي: فتحدَّث النَّاس بصلاةِ النَّبيِّ في المسجدِ من جوفِ اللَّيل (فاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ): برفع ((أكثر)) فاعل ((اجتمع))، وضمير ((منهم)) عائدٌ لـ((رجال)) (فَصَلَّى)) أي: فخرجَ من حجرتهِ فصلَّى (فَصَلَّوْا): بفتح اللام؛ أي: فصلَّى الذين اجتمعوا مقتدينَ بهِ في اللَّيلة الثَّانية، وثبت لأبي ذرٍّ: <فصلَّى فصلَّوا معه>.
          (فأصْبَحَ النَّاسُ): أي: من اللَّيلة الثَّانية (فَتَحَدَّثُوا): أي: فتحدَّثت النَّاس بذلك (فَكَثُرَ): بضم المثلثة (أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ): أي: لإرادتهِم صلاةَ التَّراويح مع النَّبيِّ صلعم (فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم): أي: من حجرتهِ (فَصَلَّى): أي: رسول الله صلعم (فَصَلَّوْا): بفتح اللام (بِصَلاَتِهِ): وسقطَ لابن عساكرٍ: <فصلَّوا>، ولأبي ذرٍّ: <فصُلِّي بصلاتهِ> بضم الصاد بإسقاط: <فصلَّى> وإسقاط: <فصلَّوا> أيضاً.
          (فَلَمَّا كَانَتِ): أي: وجدت (اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ): بفتح الجيم وقد تكسر؛ أي: ضاقَ (الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ، حَتَّى خَرَجَ): أي: النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام (لِصَلاَةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ): أي: أدَّى صلاته (أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ): أي: بوجههِ الكريم (فَتَشَهَّدَ): أي: أتَى بالشَّهادتين في صدرِ الخطبةِ، والظَّاهر أنَّه بعد الحمدلةِ.
          (ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ): بالبناء على الضم (فَإِنَّهُ): أي: الشَّأن (لَمْ يَخْفَ): مجزوم بحذف / الألف (عَلَيَّ): بتشديد التحتية (مَكَانُكُمْ) فاعل ((يخفَ))؛ أي: موضعُكُم الَّذي حللتموهُ في المسجد للجماعة، وقال الكرمانيُّ: أي: مرتبتكُم وحالكُم في الاهتمامِ بالطَّاعةِ، أو كونكُم في الجمَاعةِ.
          (وَلَكِنِّي): وفي بعضِ الأصول: <ولكن> (خَشِيتُ): بكسر الشين؛ أي: خفتُ (أَنْ تُفْرَضَ): وفي بعض الأصول: <تفترضَ> بزيادة فوقية مفتوحة بعد الفاء الساكنة (عَلَيْكُمْ): أي: صلاة التَّراويح في جماعةٍ (فَتَعْجِزُوا عَنْهَا): بكسر الجيم على الأفصح، ويجوز فتحها على ما مرَّ في الماضي؛ أي: فلا تقدِروا على فعلها لمشقَّتها عليكم.
          وقال القسطلانيُّ: أي: فتتركوهَا مع القدرةِ. انتهى فتأمَّل.
          واستشكلَ قوله عليه السَّلام: ((ولكنِّي خشيتُ أن تفرضَ عليكم))، فإنَّ ظاهره أنَّه خاف افتراضهَا عليهم لمواظبتهِم على ذلكَ، وفي ترتُّب الافتراضِ على ذلك خفاءٌ.
          وأجاب القرطبيُّ: بأنَّ معناه: خشيتُ أن تظنُّوها فرضاً للمداومةِ، فتجبَ على من ظنَّها كذلكَ، كما إذا ظنَّ المجتهدُ حلَّ شيءٍ أو تحريمهُ، فإنَّه يجب عليهِ العملَ به.
          وقيلَ: إنَّ النَّبيَّ صلعم كان إذا داومَ على شيءٍ من الطَّاعات، واقتدَى النُّاس بهِ في ذلكَ فرض عليهِم، ولذا قالَ: خشيتُ أن تفرضَ عليكُم. انتهى.
          واستبعدَه في ((شرح التَّقريب)) وأجابَ: بأنَّ الظَّاهر أنَّ المانع له عليه السَّلام أنَّ النَّاس يستعذبونَ متابعتهُ، ويستسهلونَ الصَّعب منهَا، فإذا فعلَ أمراً سهلَ عليهم فعلهُ لمتابعتهِ، فقد يوجبُه الله عليهم لعدمِ المشقَّةِ حينئذٍ، فإذا توفِّي عليه السَّلام زال عنهمُ ذلكَ النَّشاط، وجعلَ لهم الفتورَ، فيشقُّ عليهم ما كانُوا يستسهلونهُ لا أنَّه يفترضُ عليهم حقيقةً.
          وأجابَ الحافظُ ابن حجر: بأنَّ المخوف افتراضُ قيام اللَّيل بمعنَى جعل التَّهجُّد في المسجدِ جماعةً شرطاً في صحَّة التنفُّل في اللَّيل، ويشيرُ إليه حديث زيدِ بن ثابتٍ: ((حتَّى خشيتُ أن يكتبَ عليكُم، ولو كتبَ عليكُم ما قمتمْ بهِ، فصلُّوا أيُّها النَّاس في بيوتكم)).
          تنبيه: قال ابنُ المنيِّر في ((الحاشية)): يؤخذُ منه أنَّ الشُّروع ملزمٌ، إذ لا تظهرُ مناسبةٌ بين كونهم يفعلونَ في ذلكَ، ويفرضَ عليهُم إلَّا ذلك. انتهى.
          قال في ((الفتح)): وفيه نظرٌ؛ لأنَّه يحتملُ أن يكون السَّببُ في ذلك ظهورُ اقتدارهِم على ذلكَ من غيرِ تكلفٍ فيفرضَ عليهم. انتهى.
          وتعقَّبه العينيُّ فقال: في نظرهِ نظرٌ؛ لأنَّ السَّبب في ذلكَ ليس ما ذكرهُ؛ لأنَّ ما ذكره أمرٌ لا يوقفُ عليه في نفسِ الأمرِ، وإنَّما السَّبب في ذلكَ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام خشيَ أن يفرضَ عليهم بما جرتْ بهِ العادةُ أنَّ ما داوم عليهِ من القربِ فرضَ على أمَّته.
          وأيضاً: خافَ أن يظنَّ أحدٌ من أمَّته بعده إذا داومَ عليهَا أنَّها واجبةٌ، فتركهَا شفقةً على أمَّته. انتهى.
          وأقولُ: في حصرهِ السَّبب فيما ذكرهُ نظرٌ، إذ ما ذكره في ((الفتح)) يحتملُ كونَه من السَّبب في ذلكَ؛ لأنَّ الاقتدارَ على الفعلِ يناسبُ افتراضهُ، فتأمَّله منصِفاً.
          وقوله: (فَتُوُفِي رَسُولُ اللَّهِ صلعم وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ): من كلامِ ابن شهابٍ؛ لبيانِ أنَّ التَّجميع فيها في المسجدِ تُركَ على عهدِ رسول الله؛ أي: واستمرَّ إلى صدرٍ من خلافةِ عمرَ حتَّى جمع الرِّجال على أبيِّ بن كعبٍ كما مرَّ، واستمرَّ العملُ على ذلك إلى الآن.
          وفي الحديثِ كما قال الكرمانيُّ: جواز النَّافلةِ في المسجدِ وبالجماعةِ، وجوازُ الاقتداءِ بمن لم ينو الإمامةَ، وأنَّه إذا تعارضَ مصلحتانِ أو مصلحةٌ ومفسدةٌ اعتبر أهمهما؛ لأنَّه لمَّا عارضه خوفُ الافتراضِ عليهم تركهُ لعظمِ المفسدةِ الَّتي يخافُ من عجزهِم عن أداءِ الفرضِ.
          وفيه: استحبابُ التشهُّد في صدرِ الخطب، وقولِ أمَّا بعد فيهَا، واستقبالُ الجماعةِ فيهَا، وغير ذلكَ.