الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه

          2009- 2010- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ يُوُسُفَ): أي: التِّنِّيسيُّ، قال: (أَخْبَرَنَا مالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْد): بالحاء المهملة، مصغَّراً (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ): أي: ابن عوفٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَالَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ): أي: جميعَ لياليهِ، أو بعضها عندَ العذرِ، ومن نيَّته القيامُ لولاه (إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً): أي: وغيرَ مستثقلٍ له، ولا مستطيلٍ لتضجُّره بالصَّوم (غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ): يجري فيهِ ما تقدَّمَ آنفاً.
          (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ): أي: الزُّهري (فَتُوُفِي): وسقطت ((الفاء)) من بعضِ الأصول (رَسُولُ اللَّهِ صلعم وَالنَّاسُ عَلَى ذَلِكَ): أي: على تركِ الجماعةِ في التَّراويحِ، وللكُشميهنيِّ: <والأمرُ على ذلكَ> والجملة حاليَّة.
          تنبيه: الظُّاهرُ أنَّ قوله: ((قال ابنُ شهاب... إلخ)) تعليقٌ، وقد وصلهُ.
          ولأحمدَ من روايةِ ابن أبي ذئبٍ: ((ولم يكنْ رسولَ الله صلعم جمعَ النَّاس على القيامِ))، وبهذهِ يظهرُ تفسيرُ الإشارةِ بما تقدَّم فتدبَّر.
          وأمَّا ما رواهُ ابن عبدِ البرِّ من طريقِ ابن وهبٍ، عن أبي هريرةَ قال: خرجَ رسولُ الله صلعم وإذا النَّاس في رمضانَ يصلُّون في ناحيةِ المسجدِ فقال: ما هذَا؟ فقيلَ: ناسٌ يصلِّي بهم أبيُّ بن كعبٍ فقال: أصابُوا، ونِعمَ ما صنعُوا)).
          ففي سندهِ مسلم بن خالدٍ _يعني: الزِّنجيَّ_ وهو ضعيفٌ، والمحفوظُ أنَّ عمر هو الذي جمعَ النَّاس على أبيِّ بن كعبٍ، كذا في ((الفتح)) وعزَا في ((التَّوضيح)) الحديث لأبي داودَ كما في حديث مسلم بن خالدٍ، عن العلاءِ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ، وقال أبو داودَ: ليس الحديثُ بالقويِّ.
          (ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ): أي: على تركِ الجماعةِ في التَّراويح (فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ): أي: في جميعهَا (وَصَدْراً مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ): ☻، كذا في الأصولِ بنصب صدراً على الظرفيَّة، وعطفه على ((في خلافةِ أبي بكرٍ)) الواقع خبر كانَ.
          ويحتمل أنَّ ((كان)) تامَّة، فقولهُ: ((صدراً)) مفعولاً معه، ووقعَ في بعضِ الأصول: <وعمر صدراً من خلافتهِ> بعطفِ عمر على أبي بكرٍ، وأراد بـ((صدراً من خلافتهِ)) أوَّلها نحو سنتينِ؛ لما سيأتي أنَّ عمر جمعهم فيها على أبيٍّ سنةَ أربع عشرةَ من الهجرةِ.
           (وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ): أي: بالإسنادِ السَّابق فهو موصُولٌ، وهو في ((الموطَّأ)) بالإسنادينِ، لكنَّه فرَّقهما حديثين، وقد أدرجَ بعضُ الرُّواة قصَّة عمر في الإسنادِ الأوَّل.
          وقد أخرجه إسحاق بن راهويه في ((مسندهِ)) عن عبدِ الله بن الحارثِ المخزوميِّ، عن يونسَ، عن الزُّهري فزاد بعد قوله: ((وصدراً من خلافةِ عمر حتَّى جمعهم عمر على أبيِّ بن كعب فقامَ بهم في رمضانَ، فكان ذلكَ أوَّل اجتماعِ النَّاس على قارئٍ واحدٍ في رمضانَ)).
          وجزمَ الذُّهلي في ((عللِ حديث الزُّهريِّ)): بأنَّه وهمٌ من عبدِ الله بن الحارثِ، والمحفوظ رواية مالكٍ ومن تابعهُ، وأنَّ قصَّة عمر عند ابن شهابٍ عن عروةَ، عن عبد الرَّحمن بن عبدٍ لا عن أبي سلمةَ، قاله في ((الفتح)).
          وعلى ذلكَ جرى هنا فقال: (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ): أي: ابن العوَّام (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ): بتنوين عبدٍ؛ لعدم إضافته (الْقَارِيِّ): بالقاف وتشديد الياء، نسبةً إلى القارَّة، وكان عبدُ الرَّحمن المذكور عامل عمر على بيتِ المالِ، مات بالمدينة سنة ثمانينَ، وله ثمانٌ وسبعون سنة، ثقةٌ كما قال ابنُ مَعين، وقيل: لهُ صحبةٌ.
          (أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ): أي: مسجدِ المدينة النَّبويِّ (فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ / مُتَفَرِّقُونَ): أَوْزَاع _بفتح الهمزة وسكون الواو فزاي فألف فعين مهملة_ أي: جماعاتٌ متفرِّقون لا واحدَ لهُ من لفظهِ، فقوله: ((متفرِّقون)) نعتٌ للتأكيدِ؛ كنفخة واحدة، وفسَّره ابن فارس و((القاموس)) و((الصِّحاح)) بالجماعاتِ مطلقاً، وعليه فيكونُ النَّعت للتَّخصيصِ، وأرادَ أنَّ النَّاس كانوا يصلُّون التَّراويح في المسجدِ النَّبويِّ بعد صلاةِ العشاء متفرِّقين.
          وقوله: (يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ): أي: منفرداً (وَيُصَلِّي الرَّجُلُ): أي: يدخل في الصَّلاة (فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ): أي: يقتدي بهِ الجماعةُ، وهو في الأصلِ ما بينَ الثَّلاثة إلى العشرةِ، وقد يقالُ لأربعين، ويقالُ: رهط الرَّجل: قومه.
          وقوله: ((يصلِّي الرَّجل))... إلخ بيانٌ لما أجمل في قولهِ: ((فإذا النَّاس أوزاعٌ متفرِّقون))، قيل: يؤخذُ من قولهِ: ((ويصلِّي الرَّجل))... إلخ جواز الائتمامِ بالمصلِّي وإن لم ينو الإمامة؛ أي: لصدقِ قوله: ويصلِّي الرَّجل بذلك، فتأمَّل.
          تنبيه: قال ابنُ الملقِّن: في قوله: ((يصلِّي الرَّجل))... إلخ يجوز أن تكونَ اللام في الرَّجل للجنس وللعهد؛ أي: فيصلِّي لغيره معه الرهط يصلون بصَلاته، قال: فالضَّمير في صلاته راجعٌ إلى غير مذكور يدل عليه الرجل. انتهى فتأمَّله.
          (فَقَالَ عُمَرُ): أي: ابن الخطَّاب ☺ (إِنِّي أَرَى): من الرَّأي (لَوْ جَمَعْتُ): بتاء المتكلم (هَؤُلاَءِ): أي: الذين يصلُّون كما ذكرَ (عَلَى قَارِئٍ): أي: مصلٍّ (وَاحِدٍ لَكَانَ): أي: جمعهُم كذلك (أَمْثَلَ): بالمثلثة؛ أي: أفضل، وقيل: أسد من تفرقتهِم؛ لأنَّه أنشطُ لكثيرٍ من المصلِّين.
          وجملة: ((لكان))... إلخ جواب لو الشَّرطيَّة، واستنبط عمر ☺ ذلكَ من تقريرِ النَّبيِّ صلعم من صلَّى معهُ في تلكَ اللَّيالي.
          وأمَّا كراهتهُ لهم فلخشية أن تفرضَ عليهِم، وكان هذا هو السِّرُّ في إيرادِ البخاريِّ لحديث عائشةَ عقب حديث عمرَ: ((فلمَّا مات النَّبي صلعم حصلَ الأمن من ذلكَ)) ورجَّح عند عمر ذلكَ لما في الاختلافِ من افتراقِ الكلمة، ولأنَّ الاجتماع على واحدٍ أنشط لكثيرٍ من المصلِّين.
          (ثُمَّ عَزَمَ): أي: صممَّ عمر على ذلكَ (فَجَمَعَهُمْ): أي: جمعَ القوم عمر سنةَ أربع عشرة من الهجرةِ (عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ): أي: جعلهُ إماماً لهم؛ لكونهِ أقرأهُم لكتابِ الله تعالى.
          وقد قالَ عليه السَّلام: ((يؤمُّ القومَ أقرؤهُم لكتابِ الله تعالَى)) كما رواهُ مسلمٌ وأحمد والأربعة عن أبي سعيدٍ، وسيأتي في تفسيرِ البقرة قول عمر: ((أقرؤنَا أبيِّ)).
          ولسعيدِ بن منصورٍ: أنَّ عمر جمعَ النَّاس على أبيِّ بن كعب، فكانَ يصلِّي بالرِّجال، وكان تميم الدَّاري يصلِّي بالنِّساءِ، وللبيهقيِّ: وعلى النِّساء سليمان بن أبي حَثْمةَ، وهو معدودٌ في كبارِ التَّابعينَ، ذكرهُ في ((الاستيعابِ)).
          وقال في ((الفتح)): ورواه محمَّدُ بن نصرٍ في كتابِ قيام اللَّيل له من هذَا الوجهِ، فقال: سليمانُ بن أبي حَثْمة بدل تميم، ولعلَّ ذلك في وقتينِ. انتهى.
          وقوله: (ثُمَّ خَرَجْتُ):...إلخ من كلامِ عبد الرَّحمن بن عبد (مَعَهُ): أي: مع عمرَ (لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ): أي: إمامهِم، وفيه إشعارٌ بأنَّ عمر كان لا يواظبُ الصَّلاةَ معهُم، ولعلَّه كان يرى أنَّ فعلها في بيتهِ أفضلُ، ولاسيَّما آخر اللَّيلِ.
          ولمحمَّدِ بن نصرٍ في كتاب ((قيامِ اللَّيل)) له عن ابنِ عبَّاس قال: كنتُ عند عمر في المسجدِ، فسمعَ هيعةَ النَّاسِ فقال: ما هذا؟ قيلَ: خرجُوا من المسجدِ، وذلك في رمضانَ فقال: ما بقيَ من اللَّيل أحبُّ إليَّ ممَّا مضَى.
          (قَالَ عُمَرُ): أي: حينَ رآهم يصلُّون على قارئٍ واحدٍ (نِعْمَ): ويروى: <نعمَت> (الْبِدْعَةُ هَذِهِ): بزيادة تاء التأنيث، وهي كلمةٌ تجمع المحاسنَ كلَّها، كما أن ((بئسَ)) كلمةٌ تجمع المساوئ كلَّها؛ ليرغب في فعل التَّراويح بقوله: نعم؛ ليدلَّ على فضلهَا، ولئلَّا يمنع وصفها بالبدعةِ من فعلها، وسمَّاها بدعةً؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم لم يسنَّ لهم الاجتماعَ لها، ولا كانَت في زمنِ الصِّدِّيق، ولا أوَّل اللَّيل، ولا كلَّ ليلةٍ، ولا هذا العدد.
          والبدعةُ أصلها: ما أحدثَ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، وتطلق شرعاً في مقابلةِ السُّنَّة فتكون مذمومةً، وعليهَا يحملُ حديث: ((كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ)).
          وقد قسمَ ابنُ عبدِ السَّلام وغيره البدعةَ إلى خمسةِ أقسامٍ: واجبٌ ومندوبٌ ومحرَّمٌ ومكروهٌ ومباحٌ، قال الكرمانيُّ وغيره: وقيامُ رمضان في حقِّ التَّسمية سنَّة غير بدعةٍ؛ لقولهِ عليه السَّلام: ((اقتدوُا باللَّذين من بعدِي أبي بكرٍ وعمرَ)) وإذا وافقَ الصَّحابة عمر على ذلكَ زال عنهَا اسم البدعةِ.
          (وَالَّتِي): أي: والفرقةُ التي (يَنَامُونَ عَنْهَا): أي: عن صلاةِ التَّراويح الآخرة، وقال شيخُ الإسلام: ((والتي ينامونَ)) أي: والصَّلاة الَّتي ينامونَ عنها؛ أي: بعدهَا، كما في قولهِ تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19]. انتهى.
          (أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ): أي: يصلُّونها آخر اللَّيل، ويقومون بياء الغيبة فيه، وفي ينامون، وفي بعض الأصول: بالتاء الفوقية.
          وقال الكرمانيُّ: ((ينامونَ عنها)) أي: فارغين عنها؛ أي: الصَّلاة أوَّل اللَّيل أفضل من الصَّلاة في آخرِ اللَّيل، وبعضهم / عكسُوا، وبعضهم فصَّلُوا بين من استوثقَ بالانتباهِ من النَّوم وغيره. انتهى.
          وبهذا يظهرُ أنَّ آخره في قولهِ: (يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ): مرتبطٌ بـ((يقومون))، وقوله: ((يريد))... إلخ من كلامِ بعضِ الرُّواة أو البخاريِّ، وفي قوله: ((والتي ينامونَ عنها)) أفضل تصريح كما في ((الفتح)) وغيرهِ: بأنَّ الصَّلاة في آخرِ اللَّيل أفضلُ من أوَّله، لكن ليس فيه أنَّ الصَّلاة فرادى أفضلُ من التَّجميعِ.
          تنبيه: يشيرُ قول عمر المذكور إلى أنَّ من النَّاس في المدينةِ كانوا يصلُّون التَّراويح بعضها، وهو عشرونَ ركعة، وبعضها أوَّل اللَّيل، وبعضها آخره، وهي ستَّة عشر آخره، وهذا قالَ به فقهاؤنَا لأهلِ المدينةِ خاصَّة على الصَّحيح عندنَا.
          تنبيه: ليس في هذهِ الرِّواية ولا في بقيَّة رواياتِ الباب سوى الأخيرة بيانُ مقدار صلاةِ التَّراويح، وقد اختلفَ في ذلك كما في ((الفتح)) وغيرهِ.
          ففي ((الموطَّأ)) عن محمَّد بن يوسف، عن السَّائب بن يزيدَ: أنَّها إحدى عشرَ ركعة، ورواهُ سعيد بن منصور من وجهٍ آخر، وزاد فيه: ((وكانوا يقرؤونَ بالمائتينِ، ويقومونَ على العصيِّ من طول القيامِ)).
          وروى ابن إسحاق قال: حدَّثني محمَّدُ بن يوسف، عن جدِّه السَّائب بن يزيدَ، قال: كنَّا نصلِّي زمن عمر في رمضانَ ثلاثَ عشرة ركعةً.
          قال ابنُ إسحاق: وهذا أثبتُ ما سمعت في ذلك، وهو موافقٌ لحديثِ عائشةَ في صلاةِ النَّبيِّ في اللَّيل، وروى عبدُ الرَّزَّاق من وجهٍ آخرَ عن محمَّدٍ المذكور أنَّها إحدى وعشرونَ، وروى مالكٌ عن يزيدَ بن خصيفةَ، عن السَّائب المار أنَّها عشرونَ ركعة، وهذا محمولٌ على غير الوترِ، وأمَّا به فثلاثٌ وعشرون ركعةً، فقد روى يزيدُ بن رومان قال: كان النَّاس يقومونَ في زمانِ عمر بثلاثٍ وعشرينَ، وروى محمَّد بن نصر من طريقِ عطاءٍ قال: أدركتُهم في رمضان يصلُّون عشرينَ ركعة، وثلاثَ ركعاتٍ الوتر.
          والجمع بينَ هذه الرِّوايات ممكنٌ باختلافِ الأحوالِ، ويحتمل أنَّ ذلك الاختلاف بحسبِ تطويل القراءةِ وتخفيفها، وبذلكَ جزمَ الدَّاودي، وروايةُ ((الموطَّأ)) الأولى توافقُ حديث عائشةَ المذكورِ آخر الباب.
          وروى محمَّدُ بن نصر من طريقِ داود بن قيسٍ، قال: أدركتُ النَّاس في إمارةِ أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيزِ _يعني: بالمدينةِ_ يقومونَ بستٍّ وثلاثينَ ركعة، ويوترونَ بثلاثٍ.
          وقال مالكٌ: هذا الأمرُ القديم عندنا، ونقلَ الزَّعفراني عن الشَّافعيِّ قال: رأيتُ النَّاس يقومونَ بالمدينةِ بتسعٍ وثلاثين، وبمكَّة بثلاث وعشرينَ، وليس في شيءٍ من ذلكَ ضيق.
          وقال التِّرمذيُّ: أكثر ما قيلَ فيها أنَّها تصلَّى إحدى وأربعين ركعةً _يعني بالوتر_، وفيه أنَّ ابن عبد البرِّ نقل عن الأسود بن يزيد أنَّه كان يصلِّي أربعينَ ويوتر بسبعةٍ، وقيل: ثمان وثلاثين، وذكره محمَّد بن نصرٍ عن مالكٍ، والمشهورُ عن مالكٍ أنَّها ستٌّ وأربعون وثلاثٌ الوتر، ورواهُ ابن وهب عن نافعٍ قال: لم أدرك النَّاس إلَّا وهم يصلُّون تسعاً وثلاثين، يوترونَ فيها بثلاثٍ، وعن زرارةَ بن أوفَى: أنَّه كان يصلِّي بهم بالبصرةِ أربعاً وثلاثين ويوتر، وعن سعيدِ بن جبير: أربعاً وعشرين، وقيل: ستَّ عشرة غير الوترِ.
          وروى البيهقيُّ بإسنادٍ صحيحٍ كما قال العراقيُّ في ((شرحِ التَّقريب)) عن السَّائب بن يزيد قال: كانُوا يقومون على عهدِ عمر بن الخطَّاب ☺ في شهرِ رمضان بعشرينِ ركعة.
          وروى مالكٌ في ((الموطَّأ)) عن يزيدَ بن رومان قال: كان النَّاس يقومونَ في زمنِ عمر ☺ بثلاثٍ وعشرين، وفي روايةٍ: بإحدى عشرة، وجمع البيهقيُّ بينهمَا: بأنَّهم كانوا يقومونَ بإحدى عشرة، ثمَّ قاموا بعشرين وأوتروا بثلاثةٍ، وقد عدُّوا ما وقع في زمنِ عمر ☺ كالإجماعِ.
          وفي ((مصنَّف ابن أبي شيبة)) و((سننِ البيهقيِّ)) عن ابن عبَّاسٍ ☻ قال: ((كان النَّبيُّ صلعم يصلِّي في رمضانَ في غيرِ جماعةٍ بعشرين ركعة والوتر))، لكن ضعَّفه البيهقيُّ وغيره.
          قال الحليميُّ: والسِّرُّ في كونها عشرينَ ركعة أنَّ الرَّواتب؛ أي: المؤكَّدة في غير رمضان عشر ركعاتٍ، فضوعفَتْ فيهِ؛ لأنه وقتُ جدٍّ وتشمير، وهي بعشرِ تسليماتٍ، فلو صلَّاها أربعاً أربعاً مثلاً لم تصحَّ كما صرَّح به في ((الرَّوضة))؛ لأنَّه الوارد فلا تغيُّر عن موضوعها، قيل: ولأنَّها تشبه الفرائضَ في طلبِ الجماعة فيها. وعند الحنفيَّة: تصحُّ أربعاً أربعاً، ولا تزادُ عندهم، وعند المالكيَّة: على عشرينَ لغير أهلِ المدينةِ.
          وقال الحنابلةُ: التَّراويح عشرونَ، ولا بأسَ بالزِّيادة كما نصَّ عليه أحمد، وحكَى الوليُّ ابن العراقيُّ: أنَّ والده الحافظ زين الدِّين لمَّا / ولِّي إمامة مسجدِ المدينة أحيَى سنَّتهم القديمة في ذلكَ مع مراعاة ما عليهِ الأكثر، فكان يصلِّي التَّراويح أوَّل اللَّيل بعشرينَ ركعة على المعتادِ، ثمَّ يقوم آخرَ اللَّيل في المسجدِ بستةَ عشر ركعة، فيختمُ في الجماعةِ في شهرِ رمضان ختمتين، واستقرَّ على ذلكَ عمل أهلِ المدينة فهمُ عليه إلى الآن.
          فنسألُ اللَّه الكريمَ المنَّان أن يبلِّغنا العمل بالسُّنَّة، والتَّوفيق في كلِّ زمانٍ ومكانٍ في عاقبةٍ وأمانٍ، وأستودعهُ ذلك، ودوامَ نعمة الإسلامِ والإيمانِ.