الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب فضل ليلة القدر

          ░░32▒▒
          ░1▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، باب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ): ثبتت البسملة لأبي ذرٍّ قبل الباب، وسقطت لغيرهِ (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): بالجر عطفاً على ((فضلِ))، ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: <وقال الله تعالى>.
          وقال في ((الفتح)): وفي روايةِ غير أبي ذرٍّ: <وقولِ اللَّه ╡: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} إلى آخره>، ووقعَ في بعض الأصُول الصَّحيحة: <وقالَ اللَّه تعالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} إلى آخر السُّورة>، وثبتت السُّورة بكمالهَا لكريمة، ولذا نتكلَّم عليهَا، ولم أرَ في شيءٍ من أصولِ البخاريِّ ذكر بسملة أوَّل هذه السُّورة، ولعلَّه لا يرى أنَّها آية من السُّورة، فتدبَّر.
          قال العينيُّ: مطابقةُ هذه السُّورة للتَّرجمة؛ لكونِ ليلةَ القدرِ كرِّرت فيها لتفضيلهَا، وهذه السُّورة مائة واثنا عشرَ حرفاً وثلاثون كلمة وخمس آياتٍ، والأكثرونَ على أنَّها مكِّيَّة.
          وقال الضَّحَّاك ومقاتل: مدنيَّة، وقال الواقديُّ: هي أوَّل سورةٍ نزلت بالمدينةِ. انتهى.
          ({إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}): ضمير ((نا)) في الموضعينِ عبارةٌ عن اللَّه تعالى المتكلِّم، المعظِّم نفسه لعظمهِ حقيقةً، وأمَّا الهاء فعائدةٌ إلى القرآنِ لفهمهِ من المقامِ، وقيل: عائدةٌ على كتابِ اللَّه بالمعنَى الشَّامل لسائرِ كتبهِ المنزَّلة، وهي مائة وأربعة كتبٍ بناء على أنَّها كلَّها أنزلت في ليلةِ القدر، فتأمَّل هذا. وعلى الأوَّل جرى الزَّمخشري وغيره.
          قال في ((الكشَّاف)): عظَّم الله القرآنَ من ثلاثةِ أوجهٍ:
          أحدها: أنَّه أسند إنزالهُ إليهِ، وجعلهُ مختصًّا بهِ دون غيرهِ.
          الثَّاني: أنَّه جاء بضميرهِ دون اسمهِ الظَّاهر، شهادةً له بالنَّباهةِ والاستغناءِ عن التَّنبيهِ عليهِ.
          الثَّالث: الرَّفع من مقدارِ الوقت الذي أنزلَ فيهِ.
          قال: روي أنَّه أنزلَ جملةً واحدةً في ليلةِ القدرِ من اللَّوحِ المحفوظِ إلى السَّماء الدُّنيا لبيت العزَّة فيها، وأملاهُ جبريل على السَّفرةِ، ثمَّ كانَ ينزله على رسولِ الله نجوماً في ثلاثةٍ وعشرين سنةً، بحسبِ الوقائعِ والحوادثِ.
          وعن الشَّعبي: المعنَى: إنَّا ابتدأنا إنزالهُ في ليلةِ القدرِ انتهى.
          وزاد البيضاويُّ فقالَ: وقيل: المعنَى: إنَّا أنزلناهُ في فضلها انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن: {أَنْزَلْنَاهُ} جبريلَ أو القرآن نزل في ليلةِ القدرِ في رمضان في ليلةٍ مباركةٍ فيهَا يفرقُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ من اللَّوح المحفوظِ إلى السَّفرة الكاتبينَ في سماءِ الدُّنيا، فنجمتُه السَّفرة على جبريل عشرينَ ليلةً، ونجمه جبريل على رسولِ الله صلعم عشرينَ سنةً، فكان ينزلُ إرسالاً على مواقعِ النُّجوم في الشُّهور والأيَّام. انتهى.
          وجملةُ: (({أَنْزَلْنَاهُ})) خبر (({إِنَّا})) المكسورة، والعائدُ ضمير الفاعل.
          و(({فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ})): متعلِّق بـ{أَنْزَلْنَاهُ}، والقَدْر _بفتح القاف وإسكان الدال_ من غيرِ خلافٍ بين / القرَّاء، ويجوزُ في غير القرآنِ فتح الدال على أنَّه مصدر، قدَر الله الشَّيء _بتخفيف الدال مفتوحة مكسورة_ كنهرٍ وشعرٍ.
          قال في ((الفتح)): وقيل: القدْر هنا بمعنى القدَر _بفتح الدال_ الذي يؤاخِي القضاء، والمعنَى: أنَّه يقدر فيها أحكامَ تلك السَّنة؛ لقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، وبه صدَّر النَّوويُّ كلامهُ.
          ورواهُ عبدُ الرَّزَّاق وغيرهُ من المفسِّرين بأسانيدَ صحيحةٍ عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم، وقال التُّوربشتِيُّ: إنَّما جاء القدْر _بسكون الدال_ وإن كان الشَّائع في القدَر بمعنى القضَاء فتح الدال؛ ليعلم أنَّه لم يرد به ذلكَ، وإنَّما أريد به تفضيلِ ما جرى به القضاء، وإظهاره، وتحصيلهُ في تلك السَّنة. انتهى.
          وسمِّيت بليلةِ القدر؛ لعظمِ قدرهَا؛ أي: ليلة القدرِ العظيمِ؛ لنزولِ القرآن فيها، ولوصفها فيهِ بأنَّه يحصلُ لمحييها بالعبادةِ من القدرِ الفخيم.
          قال أبو بكرٍ الورَّاق: لأنَّ من لم يكن له قدرٌ، يصير فيها ذا قدرٍ إذا أحياهَا، وقيل: لأنَّ كل عملٍ صالحٍ يوجد فيهَا من المؤمنِ يكون ذا قدرٍ عند الله؛ لكونهِ مقبولاً، وقيل: لأنَّه ينزل فيهَا إلى الأرضِ ثلاثةٌ من الملائكةِ أصحاب قدرٍ، نقله العينيُّ.
          وقيل: لأنَّ أمور السَّنة يقدِّرها الله فيها، وتقضى لقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:4 5].
          وتقديرُ الله تعالى وإن كان سابِقاً، لكنَّه أظهرَ في تلك اللَّيلة ذلك التَّقدير للملائكةِ. وقال سهلُ بن عبد الله التستريُّ: لأنَّ الله تعالى يقدِّر الرَّحمة فيها على المؤمنين.
          وقال الضَّحَّاك: لا يقدِّر الله فيها إلَّا السَّعادة والنِّعم، ويقدِّر في غيرهَا البلايَا والنِّقم، وكان ابنُ عبَّاسٍ يسمِّيها ليلة التَّعظيم، وليلة النِّصف من شعبانَ ليلةَ البراءةِ، وليلتَي العيدينِ ليلةَ الجائزة، نقله ابنُ الملقِّن.
          وقال الخليلُ بن أحمد: لأنَّ الأرضَ تضيق فيها عن الملائكةِ؛ لكثرتِهم أخذاً من قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7]؛ أي: ضيِّق، ثمَّ عظم القرآن بتعجيبه لنبِّيه صلعم فقال مستفهماً على سبيلِ التَّفخيم والتَّعظيم: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} يعني لم تبلُغ درايتكَ غاية فضلهَا، ومنتهَى علوِّ قدرها، وبيَّن ذلك بقوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.
          قال ابنُ الملقِّن: أي: العمل فيهَا وحدها خيرٌ من العملِ في غيرهَا ألف شهرٍ، أو خيرٌ من ألف شهرٍ ليس فيهَا ليلةُ القدرِ، أو كان رجلٌ في بني إسرائيلَ يقوم حتَّى يصبحَ، ويجاهدَ العدوَّ حتَّى يمسي فعل ذلك ألفَ شهرٍ، فأخبر الله تعالى أنَّ قيامها خيرٌ من عملِ ذلك الرَّجل ألف شهر، أو كان ملكُ سليمان خمسمائةِ شهرٍ، وملكَ ذي القرنينِ مثلهَا، فجعلت ليلة القدرِ خيراً من ملكيهمَا. انتهى.
          ثمَّ قال: وذكرَ ابن وهب عن مسلمةَ بن عليٍّ، عن عروةَ قال: ذكرَ رسول الله صلعم أربعةً من بني إسرائيلَ عبدوا اللَّه تعالى، ولم يعصوه طرفةَ عينٍ، فذكرَ أيُّوب وزكريا وحزقيل ويُوشع بن نون، فعجبَ الصَّحابةُ من ذلك، فأتاه جبريلَ فقال: يا محمَّد عجبتْ أمَّتك من عبادةِ هؤلاء النَّفر ثمانين سنة لم يعصوا الله فيهَا طرفةَ عينٍ، فقد أنزلَ الله عليكَ خيراً من ذلك، ثمَّ قرأ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} هذا أفضلُ ممَّا عجبت منه أنت وأمَّتك، فسرَّ بذلك رسول الله والنَّاس معه. انتهى.
          وقال القسطلانيُّ: وعند ابن أبي حاتمٍ بسندهِ إلى عليِّ بن عروة، وذكرَ ما تقدَّم غير أنَّه ذكر أنَّ الأربعة عبدوا اللَّه تعالى مائتَي عامٍ.
          وقال أيضاً كالعينيِّ: وروى البيهقيُّ في ((سننهِ)) أنَّ النَّبيَّ صلعم ذكر رجلاً من بنِي إسرائيلَ لبس السِّلاح في سبيلِ الله ألفَ شهرٍ قال: فعجبَ المسلمونَ من ذلك، قالَ فأنزل اللَّه تعالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 3] قالَ: خيرٌ من الذي لبسَ السِّلاح فيها ذلكَ الرَّجل. انتهى.
          ثمَّ قال العينيُّ: وذكر بعضُ المفسِّرين أنَّه كان في الزَّمن الأوَّل نبيٌّ يقال لهُ: شمسون عليه السَّلام قاتلَ الكفرة في دينِ الله ألفَ شهرٍ، ولم ينزع الثِّياب والسِّلاح، فقالت الصَّحابة: يا ليتَ لنا عُمراً طويلاً حتَّى نقاتل مثلهُ، فنزلت هذه الآية.
          وأخبرَ عليه السَّلام أنَّ ليلة القدرِ خيرٌ من ألفِ شهرٍ الذي لبسَ السَّلاح فيها شمسون في سبيلِ اللهِ، قال: والظَّاهر أنَّ ذلكَ الرَّجل الذي ذكَره الواحديُّ هو شمسون.
          قال: وعن أبي الخطَّاب الجارود بن سهيل: حدَّثنا مسلمُ بن قتيبةَ: حدَّثنا القاسِم بن الفضلِ: حدَّثنا عيسَى بن مازن أنَّه قال: قلتُ للحسنِ بن عليٍّ ☻: عمدتُ لهذا الرَّجل _يعني معاويةَ_ فبايعتُ له فقال: إنَّ رسول الله صلعم أري بنِي أميَّة يعلون منبرهُ خليفةً بعد خليفة فشقَّ ذلك عليهِ، فأنزلَ الله تعالى عليه سورةَ القدرِ.
          قال القاسمُ؛ أي: ابن الفضلِ: فحسبنَا ملكَ بني أميَّة فإذا هو ألف شهرٍ، ثمَّ قال العينيُّ: وعن ابن عبَّاسٍ: تفكَّر النَّبي عليه السَّلام في أعمارِ أمَّته، وأعمارِ الأمم السَّالفة، / فأنزلَ الله هذه السُّورة، وخصَّ هذه الأمَّة بتضعيف الحسناتِ؛ لقصرِ أعمارهِم.
          قال: ويقالُ: إنَّ الرَّجل فيما مضَى كان لا يستحقَّ أن يقالَ له عابدٌ حتَّى يعبد الله ألفَ شهرٍ، وهي ثلاثةٌ وثمانونَ سنة وأربعة أشهرٍ، فجعلَ الله لأمَّة محمَّد ليلةً خيراً من ألفِ شهرٍ كانوا يعبدونَ فيها. انتهى.
          وقال مالكٌ في ((الموطَّأ)): سمعتُ من أثقُ به يقول: إنَّ رسول الله صلعم أريَ أعمار النَّاس قبلهُ أو ما شاءَ الله من ذلكَ، فكأنَّه تقاصر إليهِ أعمار أمَّته أن لا يبلغوا من العملِ مثلَ ما بلغَ غيرهم في طولِ العمرِ، فأعطاهُ اللَّه ليلةَ القدرِ، وجعلهَا خيراً من ألفِ شهرٍ.
          وروي عن كعبِ الأحبار أنَّه قال: كان ملكٌ من بنِي إسرائيلَ يفعل خصلةً واحدةً، فأوحى الله إلى نبيِّ زمانهِ قل لفلان يتمنَّى فقال: يا ربِّ أتمنَّى أنِّي أجاهدُ بمالي وولدي ونفسِي فرزقهُ اللَّه ألفَ ولدٍ، فكان يجهِّز الولد بمالهِ في عسكرهِ، ويخرجهُ مجاهداً في سبيلِ اللهِ فيقيمُ شهراً ويقتلُ ذلك الولدُ، ثمَّ يجهِّز ولداً آخرَ في عسكرهِ فيجاهد الولدُ ويقتل في سبيلِ الله، وهكذا في كلِّ شهرٍ إلى آخرهم، والملكُ والدهم مع ذلكَ صابرٌ قائمُ اللَّيلِ، صائمُ النَّهار، فقتل الألف ولد في ألفِ شهرٍ، ثمَّ تقدَّم الملك إلى الجهادِ بنفسهِ فقاتل حتَّى قتل فقال النَّاسُ: لا أحدَ يدرك هذا الملك، فأنزلَ الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي: من شهورِ ذلك الملكِ وقيامهِ وصيامهِ وجهادهِ بماله ونفسهِ وأولادهِ في سبيلِ اللَّه تعالَى. انتهى.
          وهذا وإن لم يثبتْ فيستأنسُ بهِ في سببِ نزولِ الآية، ولا مانعَ منه، فالفضلُ والثَّواب للَّه يؤتيهِ من يشاءُ، وسيأتي إن شاء الله في الباب الثَّاني بعد هذا البابِ بيان ما في ليلةِ القدرِ من الاختلافِ، وأنَّها خاصَّة بهذه الأمَّة على الصَّحيح المشهورِ، وغير ذلك ممَّا ستقفُ عليهِ إن شاء اللَّه تعالى.
          ({تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ}): يحتمل أن أصل {تَنَزَّلُ} تتنزل بمثناتين فوقيتين خفِّف بحذف إحداهما على أنَّ ماضيه ((تنزل)) بفوقية أوله، فهو على حدِّ قولهِ تعالى أيضاً: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:6]، ويحتملُ أنَّه لا حذف بجعله مضارع ((نزَّل)) بتشديد الزاي من غير فوقية أوَّله.
          وعلى الوجهينِ فيدلُّ على أنَّ نزول الملائكةِ فوجاً بعد فوجٍ لا دفعةً واحدةً، والألف واللام في الملائكةِ للجنس الصَّادق بالاستغراقِ، ولا يلزمُ عليهِ خلوُّ السَّموات منهم؛ لأنَّ نزولهم كما مرَّ غير دفعيٍّ، فافهم.
          وقال القسطلاني: يكثرُ تنزُّلهم.
          فقد روي أنَّه إذا كان ليلة القدرِ تنزل ملائكةُ سدرةِ المنتهَى، وروي أنَّ جبريلَ ينزل في ليلةِ القدرِ في كبكبةٍ من الملائكةِ، ومعه أربعة ألويةٍ، فينصبُ لواءً على قبرِ النَّبيِّ صلعم، ولواءً على ظهرِ الكعبةِ، ولواءً على ظهرِ صخرةِ بيت المقدسِ، ولواءً على ظهرِ طَور سيناء، ولا يدعُ بيتاً فيهِ مؤمنٌ ولا مؤمنةٌ إلَّا دخلَه وسلَّم عليه يقول: يا مؤمن ويا مؤمنة السَّلام يقرئكَ السَّلام إلَّا على مدمنِ خمرٍ، وقاطعِ رحمٍ، وآكلِ لحم خنزيرٍ.
          وروي عن أبي هريرةَ أنَّه قالَ: الملائكةُ التي تنزلُ ليلةَ القدرِ في الأرضِ أكثرُ من عددِ الحصَى.
          ({وَالرُّوحُ})؛ أي: جبريلَ، أو حفظةُ الملائكةِ، أو أشرافها، أو جندٌ من أجنادِ الله من غيرِ الملائكةِ، قاله ابنُ الملقِّن.
          وقيل: خلقٌ من الملائكةِ لا تراهم الملائكة إلَّا تلكَ اللَّيلة.
          وقال البغويُّ في تفسير سورة عمَّ: واختلفُوا في هذا الرُّوح، فقال الشَّعبي والضَّحَّاك: هو جبريلُ، وقال عطاءٌ، عن ابنِ عبَّاس: الرُّوح ملكٌ من الملائكةِ ما خلق اللَّه مخلوقاً أعظمَ منه، فإذا كانَ يومُ القيامةِ قامَ هو وحده صفًّا، وقامت الملائكةُ كلُّهم صفًّا واحداً، فيكون عظمَ خلقهِ مثلهم.
          قال: وعن ابنِ مسعودٍ: الرُّوح ملكٌ أعظم من السَّماواتِ والجبالِ ومن الملائكةِ، وهو في السَّماء الرَّابعة يسبِّح كلَّ يومٍ اثني عشرَ ألف تسبيحةٍ، يخلق من كلِّ تسبيحةٍ ملكٌ يجيءُ يوم القيامةِ صفًّا وحدهُ.
          وقال مجاهدٌ وقتادةَ وأبو صالحٍ: الرُّوح خلق على صورِ بني آدم، ليسوا بناسٍ يقومونَ صفًّا والملائكة صفًّا هؤلاءِ جندٌ، وهؤلاءِ جندٌ.
          وروى مجاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ قال: خلقٌ على صورِ بني آدم، وما ينزلُ من السَّماء ملكٌ إلَّا ومعه واحدٌ منهم، وقال الحسنُ: هم بنُو آدمَ، ورواه قتادةَ عن ابن عبَّاسٍ وقال: هذا ممَّا يكتمُه ابن عبَّاس ☻.
          وفي ((الحبائكِ)): أخرج ابن جريرٍ وابن المنذرِ وابن أبي حاتمٍ وأبو الشَّيخ والبيهقيُّ في ((الأسماء والصِّفات)) بسندٍ ضعيفٍ عن عليِّ بن أبي طالبٍ قال: الرُّوح ملكٌ واحد له سبعونَ ألف وجهٍ، لكلِّ وجهٍ سبعونَ ألف لسانٍ، لكلِّ لسان سبعونَ ألف لغةٍ، يسبِّح الله تعالى بتلك اللُّغات كلَّها، يخلقُ الله من كلِّ تسبيحةٍ ملكاً يطيرُ في الملائكةِ إلى يوم القيامةَ.
          وأخرجَ أبو الشَّيخ عن الضَّحَّاك أنَّه قال: الرُّوح صاحبُ الله يقومُ بين يدي الله تعالى يومَ القيامةِ، وهو أعظمُ الملائكة لو فتحَ فاهُ لوسِع جميعَ الملائكة، فالخلقُ إليه ينظرونَ من مخافتهِ لا يرفعونَ طرفَهم إلى من فوقهِم. انتهى.
          ({فِيهَا}): أي: يكثر تنزُّلهم في ليلةِ القدرِ، كما مرَّ، فالجار والمجرور متعلِّق بـ{تَنَزَّلُ}، وكذا / قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4] {من} بمعنى الباء كما يشير إليه قولُ البغويُّ؛ أي: بكلِّ أمرٍ من الخيرِ والبركةِ؛ كقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}؛ أي: بأمرهِ.
          وكلامُ البيضاويِّ ((كالكشَّافِ)) يفيدُ أنَّها تعليليَّة، قال في ((الكشَّاف)): أي: تتنزَّل من أجلِ كلِّ أمرٍ قضاهُ الله في تلك السَّنة إلى قابلٍ، قال: وقرئ: ▬من كل امرءٍ↨ أي: من أجلِ كلِّ إنسانٍ.
          ({سَلاَمٌ}): هي مبتدأ وخبر على التَّقديم والتَّأخير؛ أي: ليلةُ القدرِ ذات سلامةٍ؛ لتسليم الملائكة فيها أو هي ذات سلامة.
          وقال البيضاويُّ كـ((الكشَّاف)): ما هي إلَّا سلامة؛ أي: لا يقدِّر اللَّه فيها إلَّا السَّلامة، ويقضِي في غيرها السَّلامة والبلاء، أو ما هي إلَّا سلام لكثرةِ ما يسلِّمون فيها على المؤمنين.
          وقال البغويُّ: قال عطاءٌ: يريد هي سلامٌ على أولياءِ الله تعالَى وأهل طاعتهِ، وقال الشَّعبيُّ: هو تسليمُ الملائكة ليلةَ القدرِ على أهلِ المساجد من حينِ تغيب الشَّمس إلى أن يطلعَ الفجرَ.
          قال: وقيلَ تم الكلامُ عند قولهِ: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} ثمَّ ابتدأَ فقال: {سَلَامٌ هِيَ} أي: ليلةُ القدرِ سلامٌ وخيرٌ كلُّها، ليس فيهَا شرٌّ.
          وقال الضَّحَّاك: لا يقدِّر الله في تلك اللَّيلة، ولا يقضِي إلَّا السَّلامة، وقال مجاهدٌ: يعني أنَّ ليلة القدرِ سالمةٌ لا يستطيعُ الشَّيطان أن يعملَ فيها شرًّا، ولا أن يحدث فيها أذى. انتهى كلامُ البغويِّ، فليتأمَّل.
          ({حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}): {حتَّى} بمعنى: إلى، متعلِّقة مع مجرورها بـ{تَنَزَّلُ} أيضاً، أو بقائلين مقدَّراً قبل سلامٍ، وقيل: بسلام إن لم يفسَّر بسلامةٍ، و▬مَطْلِع↨ قرأه بكسر اللام الكسائيُّ، وقرأه الباقون بفتحها.
          قال البغويُّ: وهو الاختيارُ بمعنى الطلوع مصدراً، يقال: طلع الفجر طُلوعاً ومطلعاً، والكسر موضع الطلوع. انتهى.
          وقال البيضاويُّ: وقرأ الكسائيُّ بالكسر على أنَّه كالمرجع، أو اسم زمانٍ على غير قياسٍ كالمشرق. انتهى.
          وفي السُّورةِ أبحاثٌ وأحكامٌ أخرى تعلم من التَّفاسير، فهذه السُّورة ظاهرةٌ في الدَّلالةِ على فضلِ ليلةِ القدرِ، وأمَّا ما رواهُ البيضاويُّ تبعاً لغيره في فضلهَا نفسها من أنَّ رسول الله قال: ((مَن قرأَ سورةَ القدرِ أعطِي من الأجرِ كمَن صامَ رمضان، وأحيَى ليلة القدرِ))، فموضوعٌ كما نبَّه على ذلكَ الأئمَّة الحفَّاظ، فاعرفه.
          (قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ): أي: سفيان (مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ {مَا}): ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: <وما> ({أَدْرَاكَ} فَقَدْ أَعْلَمَهُ): ببناءِ أعلمه للفاعل؛ أي: فقد أعلمَ الله نبيَّه، ويحتمل بناؤه للمفعول (وَمَا قَالَ): أي: والذي قالَ فيه فما موصولة أو نكرة موصُوفة هنا وفي سابقه، ولابن عساكرٍ: <وما كانَ>.
          ({وَمَا يُدْرِيكَ}) أي: بسكون الدال؛ أي: يعلمكَ (فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ): بضم أوله؛ أي: لم يعلِمهُ اللَّه بهِ، ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: <لم يعلم> بحذف الضمير والبناء للمفعول، وفي بعض الأصول: بفتح أوله، وهذا الأثرُ وصله محمَّد بن يحَيى بن أبي عمر في كتاب الإيمان له من روايةِ أبي حاتمٍ الرَّازيِّ عنه قال: حدَّثنا ابن عيينة فذكره بلفظ: ((كلُّ شيءٍ في القرآنِ: {وما أدراك} فقد أخبرهُ به، وكلُّ شيءٍ فيه {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يخبرهُ بهِ)). انتهى، قاله في ((الفتح)).
          وزاد فيه: وعزاه مغلطاي فيمَا قرأتُ بخطِّه لتفسير ابن عيينةَ رواية سعيد بن عبد الرَّحمن عنه، قال: وقد راجعتُ منه نسخةً بخطِّ الحافظ الضِّياء فلم أجده.
          قال: ومقصودُ ابن عيينة أنَّه عليه السَّلام كان يعرفُ تعيينَ ليلة القدرِ. قال: وتعقِّب هذا الحصر بقولهِ تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فإنها نزلت في ابنِ أمِّ مكتومٍ، وقد علم عليه السَّلام بحاله، وأنَّه ممَّن تزكى ونفعتهُ الذِّكرى.