الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من رأى أن الله لم يوجب السجود

          ░10▒ (بَابُ مَنْ رَأَى أَنَّ اللَّهَ ╡): وفي بعض النُّسخ: <أنَّ الله سبحانه> (لَمْ يُوجِبِ السُّجُودَ): أي: سجود التِّلاوة، وظاهر / التَّرجمة يقتضِي أنَّ البخاريَّ لا يقول بوجوب سجود التِّلاوة، وأحاديث الباب والآثار كأحاديثَ سبقتْ في الأبواب السَّابقة تدلُّ لعدم وجوبه، وقدَّمنا أوَّل أبواب سجود التِّلاوة تصريح عُمر بن الخطَّاب على المنبرِ بعدم وجوبهِ، ولم يُنكر عليه، وهو مذهبُ الجمهور.
          قال العينيُّ هناك: ذهب الشافعيُّ ومالكٌ في أحد قولَيه وأحمد وإسحاق والأوزاعيُّ وداود إلى أنَّه سنَّةٌ، قال: وهو قول عُمر وسلمان وابن عبَّاسٍ وعمران بن الحصين، وبه قال اللَّيث وداود، قال: وفي ((التَّوضيح)): عند المالكيَّة خلافٌ في كونه سنَّةً أو فضيلةً، واحتجُّوا بحديث عمر ☺ الآتي: إنَّ الله لم يكتب علينا السُّجود إلَّا أن نشاء. وهذا ينفي الوجوب، فإنَّ عمر قال هذا القول والصَّحابة حاضرون، والإجماع السُّكوتيُّ حجَّةٌ عندهم، وذكر العينيُّ لهم أدلَّةً نقليَّةً وعقليَّةً، وأجاب عنها بما يمكن دفعه كما علم ممَّا تقدَّم في تقرير الأحاديث.
          وقال أيضاً قبلُ: فذهب أبو حنيفةَ إلى وجوبه على التَّالي والسَّامع، سواءٌ قصد السَّماع أو لم يقصده، واستدلَّ صاحب ((الهداية)) على الوجوبِ بقوله عليه السَّلام: ((السَّجدة على من سمعها، السَّجدةُ على من تلاها))، قال: وكلمة ((على)) للإيجابِ، والحديثُ غير مقيَّدٍ بالقصدِ. انتهى.
          قال العينيُّ: وهذا الحديث غريبٌ لم يثبت، وإنَّما روى ابن أبي شيبة في ((مصنَّفه)) عن ابن عُمر أنَّه قال: السَّجدة على من سمعها، وفي البخاريِّ: قال عثمان: إنَّما السُّجود على من استمع، واستدلُّوا أيضا بآيات نحو: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:20-21]، ونحو: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62]، {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] فإنَّ الذمَّ إنَّما يتعلَّق بترك واجبٍ، والأمر في الآيتين للوجوب. انتهى.
          وقال في ((الفتح)): حمل الأمر في قوله: اسجدوا، على النَّدب، أو على أنَّ المراد به: سجود الصَّلاة، أو في الصَّلاة المكتوبة على الوجوب، وفي سجدة التِّلاوة على النَّدب، على قاعدة الشافعيِّ ومَن تابعه في حمل المشترك على معنيَيه، قال: ومِن الأدلَّة على أنَّه ليس بواجبٍ ما أشارَ إليه الطَّحاويُّ مِن أنَّ الآيات في سُجود التِّلاوة منها ما هو بصيغة الخبر ومنها ما هو بصيغةِ الأمرِ، وقد وقعَ الخلاف في الَّتي بصيغةِ الأمر، هل فيها سجودٌ أو لا؟ فلو كان سجود التِّلاوة واجباً لكان ورودُه بصيغةِ الأمر أولى على أن يتَّفق على السُّجود فيه ممَّا ورد بصيغة الخبر. انتهى، وسيأتي أيضا بعض شواهد لذلك.
          وقال العينيُّ: الأمر في الموضعين للوجوب لتجرُّده عن القرينة الصَّارفة عن الوجوب، وحمله على سجود الصَّلاة يحتاج إلى دليلٍ، وحمله على الوجوب في المكتوبة وعلى الندب في التِّلاوة استعمالٌ له من مفهومين مختلفين في حالةٍ واحدةٍ، وهو ممتنعٌ. انتهى.
          وأقولُ: لا يمتنع استعماله في معنيَيه عند الشافعيَّة، فلعلَّ عند غيرهم مِن عموم المجاز، وأمَّا الصَّارف له عن الوجوب فالأدلَّة الأخرى المذكور بعضها، ومنه حديث عمر الآتي قريباً، فتدبَّر.
          وقوله: (وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ): ممَّا وصله ابن أبي شيبةَ بمعناه بسندٍ صحيحٍ إلى مطرِّفٍ قال: سألت عمران بن حُصينٍ عن الرَّجل لا يدري أسمع السَّجدة / أو لا؟ فقال: وسمعها فماذا؟. وروى عبد الرزَّاق من وجهٍ آخر عن مطرِّفٍ: أنَّ عمران مرَّ بقاصٍّ فقرأ القاصُّ السَّجدة، فمضى عمران ولم يسجد معه. انتهى.
          وجملة: (الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا؟): أي: لقراءة السَّجدة، مقول القول؛ أي: لا يكون مستمعاً (فَقَالَ): أي: عمرانُ (أَرَأَيْتَ): أي: أخبرنِي (لَوْ قَعَدَ لَهَا؟): قال الكرمانيُّ: الاستفهام في معنى الإنكار؛ يعني: لا يجب عليه أيضاً لو كان مستمعاً، وقوله: (كَأَنَّهُ): أي: عمران...إلخ من كلام البخاريِّ (لَا يُوجِبُهُ): أي: السُّجود (عَلَيْهِ): أي: على الَّذي قعد لها للاستماع، فعلى السَّامع أولى.
          (وَقَالَ سَلْمَانُ): أي: الفارسيُّ ☺ (مَا لِهَذَا): أي: للسَّماع (غَدَوْنَا): بفتح الغين المعجمة؛ أي: لم نقصده فلا نسجد، ولا يمتنع أن يقرأ ((غُدُوُّنا)): بصيغة المصدر مضموم الأحرف الثَّلاث، فتدبَّر، وقول سلمان المذكور طرفٌ من أثرٍ وصله عبد الرَّزَّاق بسندٍ صحيحٍ مِن طريق أبي عبد الرَّحمن السلميِّ قال: ((مرَّ سلمان على قومٍ قعودٍ، فقرؤوا السَّجدةَ فسجدوا، فقيل له فقال: ليس لهذا غدونا)).
          (وَقَالَ عُثْمَانُ): أي: ابن عفَّان (☺: إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا): أي: قصدَ سماعها وأصغى إليها، وهذا الأثرُ وصله عبد الرَّزَّاق عن ابن المسيَّب: ((أنَّ عثمان مرَّ بقاصٍّ فقرأَ سجدةً ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: إنَّما السُّجودُ على مَن استمعَ، ثمَّ مضى ولم يسجد))، وروى ابنُ أبي شيبة وسعيد بن منصورٍ بسندٍ صحيحٍ عن سعيد بن المسيَّب قال: ((قال عثمان: إنَّما السَّجدة على مَن جلسَ لها واستمعَ))، وهذا مذهب أحمد، قال في ((المنتهى)): فلا يسجدُ السامع، ويعتبر كون القارئ يصلح إماماً له، فلا يسجد إن لم يسجد القارئ، ولا قدَّامه، ولا عن يساره مع خلوِّ يمينه، ولا رجلٌ لتلاوة امرأةٍ أو خثنى، ويسجد لتلاوة أُمِّيٍّ وزمنٍ وصبيٍّ. انتهى.
          وهذه الآثار الثَّلاثة عن الصَّحابة لا تدلُّ على أنَّه لا يجب سجود التِّلاوة مطلقاً، بل على غير المستمع والقارئ، وأمَّا هما فجاز أنَّها واجبةٌ عليهما عند هؤلاء، مع أنَّ التَّرجمة ظاهرها العموم في عدمِ الإيجاب، وقال العينيُّ: هذه الآثار الثَّلاثة لا تدلُّ على نفِي وجوب السَّجدة على التَّالي، والتَّرجمة تدلُّ على العموم، فلا مطابقة بينهما من هذا الوجه. انتهى.
          وكذا الأثران الآتيان لا يدلَّان على عدم الوجوب مطلقاً، فإنَّ الزُّهريَّ خصَّ عدم الوجوب فيه بالرَّاكب، والمراد منه: المسافر، كما سيأتي، وأمَّا السَّائب فبسماع القاصِّ، وبهذا يظهر التوقُّف في قول ((الفتح)): ومناسبة هذه الآثار للتَّرجمة ظاهرةٌ؛ لأنَّ الَّذين يزعمون أنَّ سجود التِّلاوة واجبٌ لم يفرِّقوا بين قارئٍ ومستمعٍ. انتهى.
          أي: كذا وسامع، كما نقله هو عن ((الهداية))، وصرَّحوا به في كتب الحنفيَّة، لكن يُقال عليه: إنَّ أصحاب هؤلاء الآثار يجوز أن يقولوا بالوجوبِ على التَّالي والمستمع دون السَّامع، فلا تحصل المطابقة للتَّرجمة مطلقاً، فتأمَّله منصفاً، نعم هذه الآثار ظاهرةٌ كما في ((الفتح)) في المناسبة للتَّرجمة للرَّدِّ على مَن يقول بوجوبها مطلقاً كالحنفيَّة، فتدبَّر.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَسْجُدُ): أي: القارئ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِراً): رواه الأكثر بالتحتيَّة أوَّل الفعلين، وبرفع: ((يسجد)) لأنَّ ((لا)) نافيةٌ، ولأبوي ذرٍّ والوقت بالفوقيَّة أوَّلهما، وعليه: فتسجدْ، مجزوم بـ((لا)) النَّاهية، والمراد: خطاب كلِّ مَن يصلح له، قال في ((الفتح)): قيل: ((لا يسجد إلَّا / أن يكون طاهراً)): ليس بدالٍّ على عدم الوجوب؛ لأنَّ المدَّعي يقول: علَّق فعل السُّجود مِن القارئ والسَّامع على شرطٍ، وهو وجود الطَّهارة حيث وُجد الشَّرط لزم، لكن موضع التَّرجمة قوله: ((فإن كنت راكباً))...إلخ.
          واعترضه العينيُّ: بأنَّه لم يقل أحدٌ: يلزم من وجود الشَّرط وجود المشرُوط...إلخ، ويُجاب: بأنَّ الشَّرط الجعليِّ كاللُّغويِّ، يلزم من وجوده الوجود، وأمَّا الَّذي لا يلزم من وجودِه الوجود فهو الاصطلاحيُّ، وليس مرادًا، بل المراد الجعليُّ؛ لأنَّ هذا القائل اعتبر في الوجوب وجود الطَّهارة، فلا إيراد على ناقلِ ذلك، واعترضَه أيضاً بغير ذلك ممَّا يمكن دفعه لمن تأمَّل.
          وأثر الزُّهريِّ قال في ((الفتح)): وصله عبدُ الله بن وهبٍ عن يونس عنه بتمامه. انتهى.
          (فَإِذَا سَجَدْتَ وَأَنْتَ فِي حَضَرٍ فَاسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ): أي: حال سجودك للتِّلاوة لوجوب التَّوجُّه إليها في الحضر (فَإِنْ كُنْتَ رَاكِباً): أي: فإن كنت في سفرٍ وإن لم تكن راكباً، قال الكرمانيُّ: تعريفه كونه قسيماً للحضر، والرُّكوب كنايةٌ عن السَّفر؛ لأنَّ السَّفر مستلزمٌ له. انتهى.
          واعترضه العينيُّ فقال: لا نسلِّم تقييد الرَّاكب بالسَّفر؛ لأنَّه أعمُّ مِن كونه في السَّفر أو الحضر، وقال: جعل الرُّكوب كنايةً عن السَّفر عدولٌ عن الحقيقة من غير ضرورةٍ، وكون السَّفر مستلزماً للرُّكوب غير صحيحٍ؛ لأنَّه يكون بالمشي أيضاً. انتهى.
          وأقولُ: يلزم على التَّعميم في الرَّاكب أنَّه يسجدُ لغير القبلة في الحضر، ولا نعلم قائلاً به، والعدول عن الحقيقة هنا لمقابلة: ((راكباً)) لقوله: ((في حضرٍ)) ومثل هذا كافٍ في العدولِ عن الحقيقة، ولا يشترط الضَّرورة، وأما كون السَّفر لا يستلزم الرُّكوب فمسلَّمٌ، إلَّا أن يريد الكرمانيُّ في الجملة، فتأمَّل.
          وقوله: (فَلَا عَلَيْكَ): جواب ((إن))، واسم ((لا)) محذوفٌ كقولهم: لا علينا؛ أي: لا بأس عليك في سجودِك إلى أيِّ جهةٍ توجَّهت إليها بالسَّفر، وإلى ذلك أشار بقوله: (حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ): ففيه دليلٌ على أنَّ سجدة التِّلاوة سنَّةٌ، وإلَّا لَما جازت لغير القبلة في السَّفر مع الأمن.
          (وَكَانَ السَّائِبُ): بمهملةٍ فموحَّدةٍ آخره (ابْنُ يَزِيدَ): قال في ((التَّقريب)): ابن سعيد بن ثمامة الكنديُّ، ويُعرف بابن أخت النَّمر، صحابيٌّ صغيرٌ، له أحاديث قليلةٌ، ولَّاه عمر سوق المدينة، مات سنة إحدى وتسعين، وقيل قبل ذلك، وهو آخر مَن مات من الصَّحابة بالمدينة. انتهى، وقال أبو نعيمٍ: مات سنة اثنتين وثمانين.
          (لَا يَسْجُدُ): أي: السَّامع (لِسُجُودِ الْقَاصِّ): بقافٍ وصادٍ مهملةٍ مشدَّدة، وهو الَّذي يقصُّ على النَّاس القصص والأخبار والمواعظ، قال الكرمانيُّ: لعلَّ سببه أنَّه ليس قاصداً القرآن. انتهى.
          أي: لذاته، بل للوعظ مثلاً، وقال العينيُّ: أو لعلَّ سببه أن لا يكون قصده السَّماع، أو كان يسمعه ولم يكن يستمع له، أو كان لم يجلس له. انتهى.
          تنبيهٌ: قال في ((الفتح)): لم أقف على هذا الأثر موصولاً.