الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب سجود المسلمين مع المشركين

          ░5▒ (بَابُ سُجُودِ الْمُسْلِمِينَ) وفي بعض النُّسخ: <سجدة المسلمين> بالإفراد (مَعَ الْمُشْرِكِينَ) ولم يقل: باب سجود المشركين مع المسلمين، مع أنَّ ما بعد مع متبوع، لعلَّه لئلا يصدر بالمشركين في اللَّفظ، أو لتغليبهم لكثرتهم، أو لأنَّه لا يرى أنَّ ما بعد مع متبوعٌ دائماً، فتدبَّر.
          وجملة: (وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ) حاليَّةٌ أو مستأنفَةٌ، وكون المشرك لا وضوءَ له لعدم صحَّة نيَّته المتوقِّف عليها صحَّة وضوئه عند كثيرين كالشافعيَّةِ، وأما عند الحنفيَّة فيصحُّ، فإذا أسلم وهو متوضِّئٌ جاز أن يصلِّي به.
          تنبيه: قال العينيُّ كـ((الفتح)): ((نجِس)) بكسر الجيم وفتحها، وقال ابن التِّين: ضبطناهُ بالفتح، وقال القزَّاز: إذا قالوا مع الرِّجس أتبعوه إيَّاه، فقالوا: رِجسٌ نِجْس _بكسر النون وسكون الجيم_ انتهى.
          وفي ((القاموس)): النَّجَس _بالفتح والكسر وبالتحريك وككتف، وعضد_ ضدُّ: الطَّاهرِ، وفعله: كسمع وكرم، انتهى.
          (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب (☻ يَسْجُدُ) في غير الصَّلاة (عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ) وصلهُ ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبيرٍ أنَّه قال: كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماءَ، ثمَّ يركبُ فيقرأ السَّجدة فيسجد وما يتوضَّأ؛ لكنَّه لم يوافقه عليه أحدٌ؛ لأنَّ السُّجود للتِّلاوة في معنى الصَّلاة، فلا يصحُّ إلَّا بالوضوء، أو بدله بشروطه، نعم وافق ابن عمر الشَّعبيَّ فيما رواهُ ابن أبي شيبة عنه بسندٍ صحيحٍ في الرجل يقرأ السجدة، وهو على غير وضوءٍ، فكان يسجد، وكذا وافقه عبد الرحمن السلميُّ أنَّه كان يقرأ السجدة، ثم يسلِّمُ وهو على غير وضوءٍ، إلى غير القبلة، وهو يمشي بعرض الماء، رواهُ ابن أبي شيبة أيضاً بسندٍ حسنٍ.
          وفي روايةِ الأصيليِّ: <يسجد على وضوء>، فأسقط: <غير> لكنَّ رواية الأكثر عنه بإثباتها، ويؤيِّدها روايةُ ابن أبي شيبة السَّابقةِ آنفاً عنه.
          وأمَّا ما رواه البيهقيُّ بسندٍ صحيحٍ عن ابن عمر أنَّه قال: لا يسجد الرَّجلُ إلَّا وهو طاهرٌ، فقال في ((الفتح)): ويجمع بينهما: بأنَّه أراد بطاهرٍ: الطَّهارة الكبرى، أو هذا على حالةِ الاختيار، والأوَّل على الضَّرورة.
          واعترض ابن بطَّال على التَّرجمة: بأنَّه إن أراد المؤلف الاحتجاج لابن عمر بسجود المشركين، فلا حجَّةَ فيه؛ لأنَّ سجودهم، لم يكُنْ للعبادة لله تعالى، وإنما كان لما ألقى الشَّيطان على لسانه عليه السلام: تلك الغرانيق العُلَى وإنَّ شفاعتهم لتُرتَجى، عقبَ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم:19-20] فسجدوا لما سمعوا من تعظيم آلهتهم، فلمَّا علم عليه / الصَّلاة والسلام ما ألقى على لسانه حزِنَ له، فأنزل الله تعالى تسليةً عما عرض له: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]؛ أي: إذا تلا ألقى الشَّيطانُ في تلاوته فينسخُ الله ما يلقي الشَّيطانُ، ثمَّ يحكم الله آياته، فلا يستنبط من سجودهم جواز السُّجود على غير وضوءٍ؛ لأنَّ المشرك نجسٌ، لا يصحُّ له الوُضُوء ولا السُّجود، إلا بعد عقد الإسلام، وإن أراد الرَّدَّ على ابن عمر بقوله: ((والمشرِكُ نجِسٌ ليسَ له وضُوءٌ))، فهو أشبهُ بالصَّواب، انتهى.
          وأقول: لو أراد الردَّ لأخَّره: فلعلَّه أراد صحَّة السُّجود والتِّلاوة من غير وضوءٍ، فلذا ذكره في التَّرجمة، وأعقبهُ بأثر ابن عمر ليدلَّ على اختياره، كما هو عادته في الآثار، فتدبَّر.
          وأجاب ابنُ رشيدٍ عن اعتراض ابن بطَّال: بأن مقصود البخاريِّ: تأكيد مشروعية السجود بأن المشرك أقرَّ على السجود، وسمَّى الصحابيُّ فعله سجوداً مع عدم أهليته، فالمتأهِّل لذلك أحرى بأن يسجدَ على كل حالٍ، ويؤيِّدهُ: أن في حديث ابن مسعودٍ: أنَّ الذي ما سجدَ عوقب بأن قتل كافراً، فلعلَّ جميعَ من وفق للسُّجود يومئذٍ خُتِم له بالحسنى، فأسلم لبركة السُّجود.
          قال: ويحتملُ أن يجمعَ بين التَّرجمة، وأثر ابن عمر: بأنَّه يبعد في العادة أن يكون جميع من حضر من المسلمين كانوا عند قراءةِ الآية على وضوءٍ؛ لأنَّهم لم يتأهَّبوا لذلك، وإن كان كذلك، فمن بادرَ منهم إلى السُّجود خوف الفوات، بلا وضوءٍ، وأقرَّه النَّبيُّ صلعم على ذلك، واستدلَّ بذلك على جواز السُّجود بلا وضوء عند وجود المشقَّة بالوُضُوء.
          ويؤيِّده: أنَّ لفظ المتن: ((وسجدَ معهُ المسلِمُون والمشرِكُون والجن والإنس))، فسوَّى ابن عباس في نسبة السُّجود بين الجميع، وفيهم من لا يصحُّ منه الوضوء، فيلزم أن يصحَّ السُّجود ممن كان بوضوءٍ، وممن لم يكن بوضوءٍ.
          واعترضَ العينيُّ على ابن بطَّال فقال: فيه بحثٌ من وجوهٍ:
          الأوَّل: أن تقريرهم على السُّجود لم يكُن لاعتبار سجودهم، وإنما كان طمعاً في إسلامهم.
          الثَّاني: أن تسمية الصَّحابيِّ فعله سجوداً بالنَّظر إلى الصورة مع علمه بأنَّ سجوده كلا سجود لتوقُّفه على الإيمان.
          الثالث: أن قوله: فلعلَّ جميع من وفق... إلخ ظنٌّ وتخمينٌ، فلا ينبني عليه حكمٌ، انتهى فليتأمَّل.
          هذا، وما قاله ابن بطَّال من أنَّ الشيطان ألقى في أمنيته جرى عليه كثيرٌ من المفسِّرين، وأهل السِّير؛ لكن ردَّه المحققون.
          قال الفخرُ الرَّازيُّ: هذه القصَّة باطلةٌ موضوعةٌ، لا يجوز القول بها، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4].
          وقال البيهقيُّ: هي غير ثابتةٍ من جهة النَّقل أيضاً؛ لأنَّ في رواتها مطعونين، ورواها البخاريُّ في ((صحيحه)): ((أنَّه عليه السلام قرأ النَّجم، وسجد، وسجد معه المسلمون والمشركون، والإنسُ والجنُّ))، وليس فيه حديث الغرانيق، ومن جوَّز على الرَّسول تعظيم الأوثان فقد كفَرَ، ولذا قيل: إنها من وضع الزَّنادقة ولا أصلَ لها، انتهى.
          لكن قال في ((المواهب)): وليس كذلك، بل لها أصل، فقد خرَّجها ابن أبي حاتمٍ والطَّبريُّ وابن المنذر من طرق، وكذا ابن مردويه والبزار وابن إسحاق وابن عقبة وغيرهم، ونبَّه على ثبوت أصلها الحافظ ابن حجر في تفسير سورة والنجم وغيره، وإذا ثبت ذلك تعيَّن تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، كقوله:
تِلْكَ الغَرَانِيْقُ العُلَى                     وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى
          فإنَّ ذلك لا يجوز حملهُ على ظاهره؛ لأنَّه يستحيل عليه أن يزيد في القراءة / عمداً، وكذا سهواً إذا كان مغايراً لما جاء به من التَّوحيد.
          وسلك العلماء في الجواب عن تلك مسالكَ، فقيل: جرى على لسانه حين أخذته سنةٌ، فلما علم بذلك أحكم الله آياته، وردَّه عياضٌ: بأنَّه لا يصحُّ لعدم جواز ولاية الشَّيطان عليه في النَّوم، وقيل: ألجأه الشَّيطان إلى أن قال بغير اختيارهِ، وردَّه ابن العربيِّ بقوله حكايةً عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22]، وقيل: إنَّ المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك فعلقَ ذلك بحفظه عليه السلام فجرى على لسانه سهواً، وهذا مردودٌ أيضاً، وأجاد عياض في ردِّه، وقيل: لعلَّه قاله عليه السلام توبيخاً للكفَّار، وقال عياض: هذا جائزٌ لو كانت هناك قرينةٌ تدلُّ على المراد.
          وقيل: إن الشَّيطان، أو أحد المشركينَ لما وصل النَّبيُّ إلى قوله تعالى: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}، خشيَ المشركون أن يأتي بعدها بشيءٍ يذمُّ آلهتهم به، فبادر واغتنم سكتةً، فحاكى صوته عليه السلام فقرأ تلك الكلمات، فسمعها من دنا منه، فأشاعها عنه، ثمَّ إن الله أحكم آياته، ونسخ قصده، قيل: وهذا أحسنُ الوجوهِ، وأيَّد بما ورد عن ابن عبَّاسٍ من تفسير: {تمنى} بألقى.
          والغرانيقُ في الأصل: الذُّكور من طير الماء، واحدها: غُرنوقٌ وغُرنيق _بضم الغين وكسرها فيهما_ سمِّي به لبياضه، وقيل: الكركيُّ، والمراد: تشبيهُ آلهتهم المذكورة بالغرانيق لارتفاعها، وقيل: الغرانيقُ: هي الملائكةُ لزعمهم أنَّها بنات الله، تعالى الله عن ذلك، انتهى ملخَّصاً.
          ولقد أطال العينيُّ هنا، وسيكون لذلك عودةٌ في تفسير النَّجم إن شاء الله.