إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لما قدم رسول الله المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر

          7252- وبه قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) بن موسى البلخيُّ قال: (حَدَّثَنَا وَكِيعٌ) هو ابن الجرَّاح (عَنْ إِسْرَائِيلَ) بن يونس (عَنْ) جدِّه (أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبيعيِّ (عَنِ البَرَاءِ) بن عازبٍ ☺ أنَّه (قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلعم المَدِينَةَ) في الهجرة من مكَّة (صَلَّى نَحْوَ) أي: جهةَ (بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا) من الهجرة (وَكَانَ) صلعم (يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ) بضمِّ التَّحتيَّة وفتح الجيم مشدَّدةً، مبنيًّا للمفعول أي: يُؤمَر بالتَّوجُّه (إِلَى الكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى / : {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء}) أي: تردُّد وجهك وتصرُّف نظرك في جهة السَّماء، وكان صلعم يتوقَّع من ربِّه أن يحوِّله إلى الكعبة موافقةً لإبراهيم، ومخالفةً لليهود؛ لأنَّها أدعى للعرب إلى الإيمان؛ لأنَّها مفخرتهم(1) ومطافهم ومزارهم ({فَلَنُوَلِّيَنَّكَ}): فَلَنُعْطينَّك وَلَنُمَكِّننَّك من استقبالها، أو فَلَنَجْعلنَّك تلي سَمْتَها دون سَمْتِ بيت المقدس ({قِبْلَةً تَرْضَاهَا}[البقرة:144]) تحبُّها وتميل إليها لأغراضك الصَّحيحة التي أضمرتها، ووافقت مشيئة الله وحكمته (فَوُجِّهَ) بضمِّ الواو وكسر الجيم (نَحْوَ الكَعْبَةِ، وَصَلَّى مَعَهُ رَجُلٌ) اسمه عبَّاد بن بشرٍ كما عند ابن بَشْكُوَال، أو عبَّاد بن نهيكٍ (العَصْرَ) ولا تنافيَ بين قوله هنا: «العصر» وقوله في السَّابقة: «الصُّبح بقباءٍ» [خ¦7251] لأنَّ العصر ليوم التَّوجُّه بالمدينة، والصُّبح لأهل قباءٍ في اليوم الثَّاني (ثُمَّ خَرَجَ فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ) يصلُّون العصر نحو بيت المقدس (فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلعم ) وهذا على طريق التَّجريد جرَّد من نفسه شخصًا، أو على طريق الالتفات، أو نقل الرَّاوي كلامه بالمعنى (وَأَنَّهُ) ╕ (قَدْ وُجِّهَ) بضمِّ الواو وكسر الجيم (إِلَى الكَعْبَةِ، فَانْحَرَفُوا وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ العَصْرِ) نَحْوَ الكعبة.
          والحديث سبق في «باب التُّوجُّه نحو القبلة» من «الصَّلاة» [خ¦399] ومطابقته ظاهرةٌ، وقال في «مصابيح الجامع»: فإن قلت: إن كان مقصود البخاريِّ أن يُثبت قَبول خبر الواحد بهذا الخبر الذي هو خبر الواحد فإنَّ ذلك إثبات الشَّيء بنفسه، وأجاب بأنَّه إنَّما مقصوده التَّنبيه على مثالٍ من أمثلة قَبولهم خبر الواحد؛ ليضمَّ إليه أمثالًا لا تُحصى، فثبت بذلك القطع بقبولهم لخبر(2) الواحد، قال: ثمَّ ممَّا يتعلَّق بالكلام على هذا الحديث _وهو استقبال أهل قباءٍ إلى الكعبة عند مجيء الآتي لهم وهم في صلاة الصُّبح؛ لأنَّه ◙ أُمِرَ أن يستقبل الكعبة_ أنَّ نَسْخَ الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد هل يجوز أو لا؟ الأكثرون على المنع؛ لأنَّ المقطوع لا يُزال بالمظنون، فنُقِل عن الظاهريَّة جواز ذلك، واستُدِلَّ للجواز بهذا الحديث، ووجه الدَّليل أنَّهم قد(3) عمِلوا بخبر الواحد، ولم يُنكِر عليهم النَّبيُّ صلعم ، قال ابن دقيق العيد: وفي هذا الاستدلال عندي مناقشةٌ، فإنَّ المسألة مفروضةٌ في نسخ الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد، ويمتنع في العادة في أهل قباءٍ _مع قربهم منه صلعم وإتيانهم إليه وتيسُّر(4) مراجعتهم له_ أن يكون مستندهم في الصَّلاة إلى بيت المقدس خبرًا عنه صلعم مع طول المدَّة ستَّة عشر شهرًا من غير مشاهدةٍ لفعله، أو مشافهةٍ من قوله، قال البدر الدَّمامينيُّ: ليس الكلام في صلاتهم إلى بيت المقدس مع طول المدَّة، وإنَّما هو في الصَّلاة التي استداروا في أثنائها إلى الكعبة بمجرَّد إخبار الصَّحابيِّ الواحد لهم بتحويل القبلة، ولم يُنكِر عليهم ذلك النَّبيُّ صلعم ، وهذا هو الذي استدلُّوا به فيما يظهر، والشَّيخ _أي: ابن دقيقٍ العيد_ لم يدفعه، ثمَّ أطال الكلام ☼ في ذلك بما هو مسطورٌ في «شرح العمدة» فليراجع.


[1] في (ع): «مفخرهم».
[2] في (ص): «الخبر»، والمثبت موافق للمصابيح.
[3] «قد»: ليس في (ص) و(ع)، ولا في مطبوع المصابيح.
[4] في (ع): «وتيسير»، والمثبت موافق للمصابيح.