إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

معلق عفان: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر

          5707- (وَقَالَ عَفَّانُ) بنُ مسلمٍ الصَّفارُ، شيخُ المؤلِّف يروي عنه بالواسطةِ كثيرًا، ممَّا وصلهُ أبو نعيمٍ من طريق أبي داود الطَّيالسيِّ وأبي قتيبةَ مسلم بن قتيبةَ كلاهما، عن سليم بن حيَّان شيخ عفَّان، عنه، قالَ: (حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ) بفتح السين المهملة وكسر اللام، و«حَيَّان»: بالحاء المهملة المفتوحة والتحتية المشددة، الهذليُّ البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ) بكسر العين، و«مِيْناءُ» بكسر الميم وسكون التحتية وبعد النون ألف، ممدودًا، مولى البختريِّ الحجازيِّ، مكيٌّ أو مدنيٌّ، أبو الوليد (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) ☺ (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : لَا عَدْوَى) بالعين‼ المهملة والواو المفتوحتين بينهما دال مهملة ساكنة، أي: لا سرايةَ للمرضِ عن صاحبهِ إلى غيرهِ نفيًا لما كانت الجاهليَّةُ تعتقدهُ في بعض الأدواءِ أنَّها تعدي بطبعها، وهو خبرٌ أريد به النَّهيُ (وَلَا طِيَرَةَ) بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية من التَّطيُّر، وهو التَّشاؤمُ، كانوا يتشاءمونَ بالسَّوانح والبوارح، وكان ذلك يصدُّهم عن مقاصدِهم، فنفاهُ وأبطلهُ / ونهى عنهُ، وأخبرَ أنَّه ليس له تأثيرٌ في جلبِ نفعٍ أو دفع ضُرٍّ (وَلَا هَامَةَ) بتخفيف الميم على الصَّحيحِ، وحكى أبو زيد: تشديدها، كانوا يعتقدون أنَّ عظامَ الميِّت تنقلبُ هامةً تطيرُ، وقيل: هي البُومةُ كانت إذا سقطتْ على دار أحدهم يرى أنَّها ناعيةٌ له نفسهُ أو بعض أهلهِ، وقيل: إنَّ روحَ القتيلِ الَّذي لا يؤخذُ بثأره تصيرُ هامةً فتزقو، وتقولُ: اسقُوني اسقُوني، فإذا أدركَ بثأرهِ طار (وَلَا صَفَرَ) هو تأخيرُ المحرَّم إلى صفر، وهو(1) النَّسيءُ، وفي «سنن أبي داود» عن محمَّد بن راشدٍ(2) أنَّهم كانوا يتشاءَمون بدخول صفرَ، أي: لما يتوهَّمون أنَّ فيه تكثير(3) الدَّواهي والفتن، وقيل: إنَّ في البطن حيَّة(4) تهيجُ عند الجوعِ وربَّما قتلتْ صاحبَها، وكانت العربُ تراها أعدى من الجربِ فنفى(5) صلعم ذلك بقوله: «وَلا صَفَرَ» وزادَ مسلمٌ من طريق العلاءِ بن عبد الرَّحمنِ، عن أبيه، عن أبي هُريرة: «ولَا تِوَلَةَ(6)»، وزاد النَّسائيُّ(7) وابنُ حبَّان من حديث جابرٍ «ولَا غُوْلَ»، فالحاصلُ ستَّةٌ، وقد كانت العربُ تزعم أنَّ الغيلانَ في الفَلَوَاتِ، وهي جنسٌ من الشَّياطينِ تتراءى للنَّاس وتتغوَّلُ لهم تغوُّلًا، أي: تتلوَّن تلوُّنًا فتضلُّهم عن الطَّريق فتُهلكهم، فنفى النَّبيُّ صلعم استطاعةَ الغول أن تضلَّ أحدًا. وفي حديث: «لا غُولَ ولكنْ السَّعالي» والسَّعالي سحرةُ الجنِّ، أي: ولكن في الجنِّ سحرةٌ لهم تلبيسٌ و(8)تخييلٌ، وفي الحديث: «إذا تغوَّلَتِ الغيلان فنادُوا(9) بالأذَانِ» أي: ادفعُوا شرَّها بذكر اللهِ، فلم يرد بنفيها عدمَها إذ كانت، ثُمَّ زالت ببعثته صلعم . قال الطِّيبيُّ: «لا» الَّتي لنفي الجنس دخلتْ على المذكوراتِ فنفت ذَواتها، وهي غيرُ منفيَّة، فيتوجَّهُ النَّفي إلى أوصافها وأحوالها الَّتي هي مخالفةٌ للشَّرعِ، فإنَّ العدوى والصَّفر والهامَة والتِّوَلةَ(10) موجودةٌ فالمنفيُّ ما زعمت الجاهليَّة إثباته، فإنَّ نفيَ الذَّات لإرادةِ نفي الصِّفات أبلغُ؛ لأنَّه من بابِ الكناية (وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ(11)) أي: كفرارك(12) (مِنَ الأَسَدِ) فما مصدريَّةٌ.
          واستُشكلَ مع السَّابق وأكله صلعم مع مجذومٍ، وقال‼: «ثقة باللهِ وتوكُّلًا عليه»، المروي في [ابن ماجه](13) . وأُجيب بأنَّ المراد بنفي العَدوى أنَّ شيئًا لا يعدي بطبعهِ نفيًا لما كانت الجاهليَّة تعتقدُه من أنَّ الأمراض تُعدي بطبعِها من غيرِ إضافةٍ إلى الله تعالى كما سبق، فأبطلَ صلعم اعتقادَهُم ذلك وأكل(14) مع المجذومِ ليُبيِّن لهم أنَّ الله تعالى هو الَّذي يُمرضُ ويُشفي، ونهاهُم عن الدُّنوِّ من المجذومِ ليُبيِّن أنَّ هذا منَ الأسبابِ الَّتي أجرَى اللهُ العادة بأنَّها تُفضي إلى مُسبِّباتها، ففي نهيهِ إثباتُ الأسبابِ، وفي فعلهِ إشارةٌ إلى أنَّها لا تنتقلُ(15)، بل الله هو الَّذي إن شاءَ سلبَها قُواها فلا تؤثِّر شيئًا، وإن شاءَ أبقاها فأثَّرتْ(16) وعلى هذا جرى أكثرُ الشَّافعيَّة، وقيل: إنَّ إثباتَ العدوى في الجُذام ونحوه مخصوصٌ من عموم نفي العدوى، فيكونُ المعنى لا عدوى إلَّا من الجُذامِ والبرصِ والجربِ مثلًا، قالهُ القاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ، وقيل: الأمرُ بالفرارِ ليس من بابِ العدوى، بل لأمرٍ طبيعيٍّ، وهو انتقالُ الدَّاء من جسدٍ إلى جسدٍ بواسطة الملامسةِ والمخالطةِ وشمِّ الرَّائحةِ، فليس على طريقِ العَدوى بل بتأثيرِ الرَّائحةِ؛ لأنَّها تسقمُ مَنْ واظبَ اشتمامها ونحو ذلك، قالهُ ابنُ قُتيبة، وهو قريبٌ، وقيل: المرادُ بالفرارِ رعايةُ خاطرِ المجذومِ لأنَّه إذا رأى الصَّحيح البَدَنِ سليمًا من الآفة الَّتي(17) به عظمتْ مُصيبتهُ وحسرتُه واشتدَّ أسفهُ على ما ابتُليَ به، ونسيَ سائر ما أنعم اللهُ عليه، فيكونُ سببًا لزيادة محنةِ أخيهِ المسلمِ وبلائه، وقيل: لا عَدوى أصلًا رأسًا، والأمرُ بالفرار إنَّما هو حسمٌ للمادَّة وسدٌّ للذَّريعةِ؛ لئلَّا يحدُثَ للمُخالط شيءٌ من ذلك، فيظنُّ أنَّه بسبب المخالطة فيثبِتُ العدوى الَّتي نفاها صلعم ، فأمرَ(18) صلعم بتجنُّب ذلك شفقةً منه ورحمةً، ويأتي مَزِيدٌ لذلك إن شاء اللهُ تعالى بعون اللهِ [خ¦5775].


[1] في (ص) و(م) و(د): «هي».
[2] تصحف في (ب): «راحد».
[3] في (ب): «تكثر».
[4] في (م): «حومة».
[5] في (م): «فنهى».
[6] الذي في «الفتح»: «نَوْء»، وهو الذي في مسلم (2220).
[7] في (د): «وزاد أيضًا».
[8] في (م): «في».
[9] في (ب) و(س): «فبادروا».
[10] في (م): «النوء»، وهو الذي في «شرح المشكاة»، وهو الذي في صحيح مسلم (2220) كما سبق.
[11] في (م): «وفروا... تفروا».
[12] في (م): «كفراركم».
[13] في الأصول كلها بعد: «المروي في» بياض.
[14] في (ب) و(ص): «أكله».
[15] في (ب) و(س): «تستقل»، كذا في «الفتح».
[16] في (ص): «فتأثرت».
[17] في (م) زيادة: «هي».
[18] في (ص): «فإنه».