التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب في الظهار

          ░23▒ بَابٌ فِي الظِّهَارِ.
          هو تشبيه المكلَّف زوجته أو جزأها بجزء محرم أنثى لم تكن حلالًا له قط، وهذا في عضو لا يُذكَرُ في معرض الكرامة، أمَّا ما يُذكَرُ فيها كالرأس والعين فالأصحُّ أنَّ التَّشبيه به كناية، فإن أراد التكريم لم يكن مظاهرًا أو الظِّهار كان مظاهرًا على الجديد، وإن أطلق فأرجح الوجهين كما قال النَّوويُّ أنَّه الكرامة.
          قوله: (وَقَالَ لِي إسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنِي مالِكٌ) تقدَّم أنّه عبَّر (فَقَالَ لِي) للإشارة إلى الفرق بين ما يكون على سبيل التَّحديث أو هو على سبيل المذاكرة.
          قوله: (وَقَالَ الحَسَنُ بنُ الحُرِّ) بضم / الحاء المهملة وتشديد الراء، النَّخَعي الكوفي ثم الدِّمشقي، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وفي بعضها (الحسن بن حي) ضدُّ الميت، الهمداني الفقيه، مات سنة تسع وستِّين ومائة.
          قوله: (وَقَالَ عِكْرَمَةُ: إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَيءٍ، إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنَ النِّسَاءِ) يعني الزَّوجات الحرائر والإماء لا من المملوكات، وهذا الأثر ذكره ابن حزم قال: ورُوِيَ أيضًا مثله عن الشعبي ولم يصحَّ عنهما، وصحَّ عن مجاهد في أحد قوليه: وابن أبي مليكة. وبما قال عكرمة قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأصحابهم، إلَّا أنَّ أحمد قال: في الظِّهار في ملك اليمين كفَّارة يمين.
          قوله: (وَفِي العَرَبِيَّةِ: لِمَا قَالُوا، أَي: فِيمَا قَالُوا) يشير إلى ما في قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}[المجادلة:3] يعني إن عاد له، يُستعمَلُ في العربيَّة بمعنى عاد فيه، أي: نقضه وأبطله. وقال الزمخشري: {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي: يتداركون ما قالوا، لأنَّ المتدارك للأمر عائد إليه، أي: يتداركه بالإصلاح بأن يُكفِّرَ عنه.
          قال البخاري: والحمل على النَّقض أولى ممَّا قالوا إنَّ معنى العود تكرار لفظ الظِّهار، لأنَّ الله لم يدلَّ على المنكر وقول الزُّور، وغرضه الرَّدُّ على داود الظَّاهري الأصفهاني حيث قال: إنَّ العود تكرير كلمة الظِّهار. وذلك لأنَّه لو كان معناه كما زعم لكان اللهُ دالاًّ على المنكر وقول الزُّور، تعالى الله عن ذلك. والعود عند الشافعي هو إمساكها بعد الظِّهار زمنًا يمكن أن يُطلِّقَها فيه فلا يُطلِّقُها، وعند الحنفيِّ إرادة الجماع، وعند مالك الجماع نفسه، وعند الظَّاهريَّة ما قدَّمناه، وما قدَّمناه عن الشَّافعي محلُّه عند أصحابه في غير الظِّهار المؤقَّت، أمَّا لو ظاهر من امرأته ظهارًا مؤقَّتًا وأمسكها زمنًا يمكن فيه الطَّلاق لم يصر عائدًا، فإن فطن في المدَّة صار عائدًا، هذا هو الأصح، ولو ظاهر من رجعيَّة لم يصر بترك الطلاق عائدًا.
          قوله: لم يذكر البخاري في باب الظِّهار حديثًا واقتصر على الآثار لأنَّه لم يجد فيه حديثًا على شرطه، وقد روى ابن حزم من طريق سليمان بن حرب وعارم كلاهما عن حمَّاد بن سلمة عن هشام عن أبيه عن عائشة، أنَّ جميلة كانت امرأة أوس بن الصامت / وكان به لمم، وكان إذا اشتدَّ لممه ظاهر منها فأنزل الله فيه كفارة الظِّهار، قال ابن حزم: ولا يصحُّ في الظِّهار إلا هذا الخبر وخبر آخر ذكره من طريق النَّسائي: أخبرنا الحسن بن حريب، أخبرنا المفضل بن يونس عن معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلعم فقال: إنِّي ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أُكفِّرَ، فقال له رسول الله: ((لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله)) وهذا خبر صحيح من رواية الثقات، ولا يَضُرُّ إرسال من أرسله، وكلُّ ما عدا هذا فهو ساقط، إمَّا مرسل وإمَّا من رواية من لا خير فيه. انتهى.
          وهذا الحديث أخرجه أصحاب «السنن الأربعة» وقال الترمذي فيه: حديث حسن غريب صحيح، وقال النَّسائي وأبو حاتم: مرسلًا أصوب من المسند، ولما رواه البزَّار من حديث إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن عبد الله بلفظ، فقال ◙ : ((ألم يقل الله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}؟ [المجادلة:3])) قال: أعجبتني، قال: ((أمسك حتى تُكفِّرَ)) قال: لا نعلم يُروَى بإسناد أحسن من هذا، على أنَّ إسماعيل قد تُكُلِّمَ فيه، وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم. وقال ابن أبي حاتم: رواية الوليد عن ابن جريج عن الحكم بن أبان خطأ، إنَّما هو عن عكرمة أنه ◙ مرسل، وفي موضع آخر سُئِلَ عن حديث إسماعيل عن عمرو عن طاوس فقال: إنَّما هو طاوس لرسول الله، ومنهم من يقول عن عمرو عن عكرمة أنَّه ◙ ، قال: وإسماعيل هذا مخلِّط.
          وروى الترمذي من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن أنَّ سلمان بن صخر الأنصاري أحد بني بياضة جعل امرأته عليه كظهر أمِّه حتى ينقضي رمضان، فلمَّا مضى نصف رمضان وقع عليها ليلًا، وأتى رسول الله فذكر ذلك له فقال ◙ : ((أعتق رقبة)) قال: لا أجدها، قال: ((صُمْ شهريين متتابعين)) قال: لا أستطيع، قال: ((أطعم ستِّين مسكينًا)) قال: لا أجد، فقال رسول الله (1) لفروة بن عمرو: ((أعطه ذلك العرق)) وهو كيل (2) يأخذ خمسة عشر صاعًا أو ستة عشر صاعًا قال: ((أطعم ستين مسكينًا)) قال الترمذي: حديث حسن، فقال سليمان بن صخر وسلمة بن صخر البياضي، وأخرجه الحاكم في «مستدركه» وقال صحيح على شرطه، وأمَّا أبو داود وابن ماجه / فروياه من حديث سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر وهو منقطع، فسليمان لم يسمع من سلمة، قال البخاري: وفي إسنادهما مع ذلك عنعنة ابن إسحاق، وأمَّا الحاكم فأخرجها وقال: صحيح على شرط مسلم وله شاهد _فذكر الأول_ وأخرجه ابن الجارود في «منتقاه».


[1] قوله:((الله)) ليس في الأصل والسياق يقتضيها.
[2] صورتها في الأصل:((بكيل)).