التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون

          قوله: (بَابُ الطَّلَاقِ فِي الإِغْلَاقِ): لفظ التَّرجمة حديثٌ، وهو «لا طلاق [ولا عتاق] في إغلاق»، رواه أبو داود، وابن ماجه، وصحَّحه الحاكم على شرط مسلم، ونقل شيخنا عن ابن بَطَّال: (أنَّه ليس بثابت)، وتعقَّبه، و(الإغلاق): بكسر الهمزة، وبالغين المُعْجَمة، وفي آخره قافٌ، قال الدِّمْيَاطيُّ: («الإغلاق»: الإكراه؛ لأنَّ المُكرَه مُغلَقٌ عليه في أمره، ومُضيَّق عليه في تصرُّفه، كما يُغلَق الباب على الإنسان، ومنه: «لا يَغْلَقُ الرَّهنُ»، وغُلوقُه: إذا بقي في يد المُرتِهن ولا يقدر صاحبه على تخليصه؛ والمعنى: أنَّه لا يستحقُّه المرتهِن إذا لم يفكَّه صاحبُه، / كان هذا من فعل الجاهليَّة إذا لم يؤدِّ ما عليه في الوقت المُعيَّن؛ ملك المرتهِنُ الرَّهنَ، فأبطله الإسلام)، انتهى، وما قاله أخذه من «النِّهاية» لابن الأثير مِن مكانَين، وقال ابن قُرقُول: («لا طلاقَ في إغلاقٍ»: هو الإكراه، وهو مِن «أَغْلَقْتُ الباب»، وإلى هذا ذهب مالكٌ)، انتهى، وذهب إليه خمسةٌ مِن الصَّحابة: عُمر، وعليٌّ، وابن عمر، وابن عَبَّاس، وزيد بن ثابت، كما نقله البَيْهَقيُّ عنهم، قال: (ولا مخالفَ لهم مِن الصَّحابة، فصار إجماعًا)، انتهى، قال ابن قُرقُول: (وقيل: «الإغلاق» هنا: الغضب، وإليه ذهب أهل العراق، وقيل: معناه: النَّهْي عن إيقاع الطلاق الثلاث بمرَّة، وهو نهيٌ عن فعله، وليس بنفي لحكمه إذا وقع، ولكن ليطلِّق للسُّنَّة كما أمره الله)، انتهى، وفي «مجمع الغرائب» للفارسيِّ تغليطُ قولِ مَن قال: إنَّه الغضب؛ لأنَّ أكثر طلاق النَّاس في حال الغضب، إنَّما هو الإكراه، انتهى، وفسَّره بعضُهم بالجنون، والظَّاهر مِن عبارة البُخاريِّ: أنَّ الإغلاق غير الإكراه وغير الجنون؛ لأنَّه عطفهما عليه، فهما غيره عنده، فبقي في المسألة قولان، وهو لم يقل بأنَّه النَّهْيُ عن فعل الثَّلاث، فما بقي إلَّا أنَّه عنده الغضب، والله أعلم، ويحتمل أن يفسِّره هو بشيء آخرَ غير ما قيل فيه، ويأتي في (كتاب الأيمان) [خ¦83/18-9911] ما مقتضاه: أنَّ اليمين في الغضب مُنعقِدة عنده، ويحتمل أن يُفرِّق بين الطَّلاق واليمين، والله أعلم.
          وقال بعض المُتأخِّرين ممَّن يتكلَّم على طريق الاجتهاد _وهو ابن القَيِّم، وظاهر حاله أنَّه أخذه من أبي العَبَّاس ابن تيمية_: (حقيقة الإغلاق: أن يُغلَق على الرجل قلبُه، فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به؛ كأنَّه انغلق عليه قصده وإرادته...، قال: والغضب ثلاثة أقسام؛ أحدها: ما يزيل العقل، فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع، الثاني: ما يكون في مبادئه؛ بحيث لا يَمنَع صاحبَه مِن تصوُّر ما يقول وقصده، فهذا يقع طلاقه، الثالث: أن يستحكم ويشتدَّ به، فلا يزيل عقله بالكليَّة، ولكن يحول بينه وبين نيَّته؛ بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال، فهذا محلُّ نظر، وعدم الوقوع في هذه الحالة قويٌّ مُتَّجه)، والله أعلم، وقال الإمام أحمد: الغضب، نصَّ عليه، حكاه عنه الخلال أبو(1) بكر في «الشَّافي» و«زاد المسافر»، هذا تفسير أحمد للحديث، وقال أبو داود في «سننه»: (أظنُّه الغضب)، وترجم عليه: (باب الطَّلاق على غلط)، وفسَّره أبو عبيد وغيره بأنَّه الإكراه، وفسَّره غيرهما بالجنون، وقيل: هو نهي عن إيقاع الطلقات الثلاث دفعةً واحدةً، فيُغلَق عليه الطَّلاقُ حتَّى لا يبقى منه شيء؛ كغلق الرَّهن، حكاه أبو عبيد الهرويُّ، وقال أبو العَبَّاس ابن تيمية: (وحقيقة الإغلاق: أن يُغلَق على الرجل قلبُه، فلا يقصد الكلام ولا يعلم به؛ كأنَّه انغلق عليه قصده وإرادته، قال: فيدخل في ذلك طلاقُ المُكرَه، والمجنون، ومن زال عقله بسكر أو غضب، وكلُّ مَن لا قصد له ولا معرفة له بما قال).
          فائدةٌ: الأشياء التي لا يُؤاخَذ بها الإنسان عشرةٌ؛ أحدها: الخطأ مِن شدَّة الغضب، والخطأ مِن شدَّة الفرح، الثالث: في حال السُّكر، والخطأ، والنسيان، والمُكرَه، واللَّغو، وسَبْق اللِّسان بما لم يُردْهُ المُتكلِّم، والإغلاق، والجهل بالمعنى، فهذه عشرة أشياءَ ذكرها ابن قَيِّم الجَوزيَّة الحافظ شمس الدِّين في «معاليم المُوقِّعين» أنَّ الشخص لا يؤاخذه الله بها؛ لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخَذُ به، ثُمَّ ذكر أدلَّتها في الكتاب المذكور، فإن أردتها؛ فانظره.
          ومسألة السُّكر: الأصحُّ عند الشَّافِعيَّة: أنَّه مُؤاخَذٌ بما يقول فيه أو يفعل إذا أثم به سواء كان شرابًا أو دواء، له وعليه، قولًا وفعلًا.
          قوله: (وَالْكُـَرْهِ): هو بِضَمِّ الكاف وفتحها، وقد تَقَدَّمَ أنَّ الكِسائيَّ قال: (الكَره والكُره: لغتان)، انتهى، وقيل: بالفرق بينهما [خ¦65-6740].
          قوله: (وَالشِّرْكِ): كذا في أصلنا القاهريِّ، وكذا في الدِّمَشْقيِّ، قال شيخنا: (ووقع في كثير من النُّسخ: («والنِّسيان في الطَّلاق والشِّرك»، وهو خطأ، والصَّواب: «والشَّكُّ» مكان «الشِّرك»)، انتهى، وهذا لم أره في «المطالع»، ولكنَّه كلام معقول، وأمَّا (الشرك)؛ فليس له معنًى طائلٌ، ثُمَّ ذكر شيخنا بعد كلام النَّاس في الشَّكِّ في الطَّلاق قال: (ولا يجوز عندهم أن يُرفَع يقينُ النِّكاح بشكٍّ، وإليه أشار البُخاريُّ)، انتهى، وقال بعضهم: («والشرك»، ويروى: «والشَّكُّ»، وهو أليق).
          قوله: (وَتَلَا الشَّعْبِيُّ): تَقَدَّمَ قريبًا وبعيدًا أنَّه عامر بن شَراحيل الشَّعبيُّ، وأنَّه بفتح الشين، وهذا ظاهِرٌ.
          قوله: (مِنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ): هو بكسر الواو الثَّانية، ولا يقال بفتحها، وهو مَن غلب عليه الوسواس.
          قوله: (لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ: أَبِكَ جُنُونٌ؟!): يريد بهذا: ماعزَ بن مالك المرجوم في الزِّنى ☺، وسيأتي قريبًا [خ¦5270].
          قوله: (شَارِفَيَّ): هو تثنية (شارف)، وقد تَقَدَّمَ الكلام على (الشَّارف) [خ¦2089].
          قوله: (فَطَفَـِقَ): تَقَدَّمَ مِرارًا بكسر الفاء(2) وفتحها؛ وأنَّ معناه: جعل [خ¦198].
          قوله: (قَدْ ثَمِلَ)، وكذا قوله: (أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ): هو بفتح الثاء المُثلَّثة، وكسر الميم؛ أي: سكر، وقد تَقَدَّمَ أنَّ هذا كان قبل تحريم الخمر، بل قُتِل حمزة شهيدًا ☺ والخمر ما حُرِّمت بعدُ [خ¦2375].
          قوله: (وَقَالَ عُثْمَانُ): هو عثمان بن عَفَّانَ، أحد العشرة، الخليفة المقتول ظلمًا ☺، وفي الصَّحابة مَن اسمه عثمان نيِّفٌ وعشرون شخصًا، ولكن فيهم مَنِ الصَّحيح أنَّه تابعيٌّ، وقد قَدَّمْتُ ذلك ♥ [خ¦42/1-3672].
          قوله: (وَالْمُسْتَكْرَهِ): هو بفتح الرَّاء(3)، اسم مفعول، وهذا ظاهِرٌ.
          قوله: (وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ): هذا الظاهر أنَّه هو الصَّحابيُّ عقبة بن عامر بن عبس بن عمرٍو الجهنيُّ، مشهور نبيل شريف فصيح مُقرِئٌ فَرَضِي شاعرٌ، وُلِّي غزوَ البحر، تُوُفِّيَ بمصر سنة ░58هـ▒، وقد زرت قبره بالقَرافة، وفي الصَّحابة شخصٌ آخرُ اسمه عقبة بن عامر بن نابي الأنصاريُّ السَّلِميُّ، بدريٌّ، شهد العقبة الأولى، وقُتِل باليمامة، والظاهر أنَّ هذا ليس المرادَ، والله أعلم.
          قوله: (طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ): تَقَدَّمَ أعلاه أنَّه بكسر الواو الثانية، ولا يجوز فتحها، وتَقَدَّمَ مَن هو.
          قوله: (وَقَالَ عَطَاءٌ): هو عطاء بن أبي رَباح المَكِّيُّ، أحد الأعلام، تَقَدَّمَ.
          قوله: (إِذَا بَدَأَ): هو بهمزة في آخره.
          قوله: (إِذَا بَدَأَ بِالطَّلَاقِ؛ فَلَهُ شَرْطُهُ): يريد: مثل قوله: أنت طالق إن فعلتِ كذا، وشبهه، وذُكِر عن بعضهم أنَّه لا ينتفع بشرطه، قاله شيخنا.
          قوله: (نَافِعٌ): هذا هو نافع مولى ابن عمر، وهو أحد الأعلام، مِن المغرب، وقيل: مِن نيسابور، وقيل: مِن سبي كابل، وقيل: كان اسم أبيه هرمز، مشهور التَّرجمة ⌂.
          قوله: (طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ألْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ خَرَجَتْ؛ فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ): (الرجل) و(امرأته) لا أعرفهما، و(بُتَّتْ منه): مَبْنيٌّ لِما لمْ يُسَمَّ فاعِلُه، وهذا ظاهِرٌ.
          قوله: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ): تَقَدَّمَ مِرارًا أنَّه مُحَمَّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، أحد الأعلام المشهورين رحمة الله عليه. /
          قوله: (يُسْألُ) هو بِضَمِّ أوَّله، مَبْنيٌّ لِما لمْ يُسَمَّ فاعِلُه.
          قوله: (وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ): (قلبُه): مَرْفوعٌ، فاعل (عقد)، وكذا (قَلْبُهُ) الثانية، قال شيخنا: (يريد: إذا لم يحلف بحضرةِ بيِّنة، ولا يُقبَل ذلك منه؛ إذا حضرتِ البيِّنةُ يمينَهُ)، انتهى.
          قوله: (جُعِلَ ذَلِكَ): (جُعِل): مَبْنيٌّ لِما لمْ يُسَمَّ فاعِلُه.
          قوله: (فِي دِينِهِ): بكسر الدَّال، وهذا ظاهِرٌ.
          قوله: (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ): هو إبراهيم بن يزيد النَّخعيُّ، الفقيه الكوفيُّ، أحد الأعلام، مشهور التَّرجمة.
          قوله: (فِيكِ): هو بكسر الكاف، خطابٌ لمُؤنَّث، وهذا ظاهِرٌ جدًّا.
          قوله: (وَطَلَاقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ): (طلاقُ): مَرْفوعٌ مبتدأٌ، و(بلسانهم): خبره.
          قوله: (يَغْشَاهَا): أي: يجامعها، وهذا ظاهِرٌ جدًّا.
          قوله: (وَقَالَ الْحَسَنُ): هو ابن أبي الحسن البصريُّ، العالم المشهور، أحد الأعلام.
          قوله: (الْحَقِي): هو بهمزة وصلٍ _فإن ابتدأت بها كسرتها_ وفتحِ الحاء، وقد تَقَدَّمَ [خ¦3364].
          قوله: (عَنْ وَطَرٍ): هو بفتح الواو والطَّاء المُهْمَلة، وبالراء، قال الجوهريُّ: («الوَطَر»: الحاجة، ولا يُبنَى منه فعلٌ، والجمع: الأوطار)، انتهى.
          قوله: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ): تَقَدَّمَ مِرارًا أنَّه مُحَمَّد بن مسلم، أحد الأعلام.
          قوله: (وَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَمْ تَعْلَمْ...) إلى آخره: هذا حديث مَرْفوعٌ، وكأنَّه لم يصحَّ رفعه عنده، إنَّما صحَّ عنه وقفُه على عليٍّ ☺، أخرجه الأربعة في «سننهم» مرفوعًا، وحسَّنه التِّرْمِذيُّ، وقال: غريبٌ مِن هذا الوجه، ولا نعلم للحسن سماعًا من عليٍّ ☺، وصحَّحه ابن حِبَّان [خ¦143] والحاكم، وزاد: (على شرط الشَّيخين)، وأخرجه أبو داود، والنَّسَائيُّ، وابن ماجه من حديث عائشة ♦ مرفوعًا أيضًا، وصحَّحه ابن حِبَّان [خ¦142] والحاكم وزاد: (على شرط مسلم)، وقال ابن المنذر: (ثابت).
          قوله: (إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ): هو المجنون المُصاب بعقله، و(عُتِهَ)، فهو معتوه، وقال شيخنا: (النَّاقص العقل).


[1] في (أ): (وأبو).
[2] في (أ): (القاف)، وليس بصحيح.
[3] في (أ): (الكاف)، وليس بصحيح.