شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب جوار أبي بكر في عهد النبي وعقده

          ░4▒ بَابُ جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النَّبيِّ صلعم وَعَقْدِهِ
          فيهِ عَائِشَةُ(1): (لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ النَّبيُّ صلعم طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ أَبُو(2) بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ في الأَرْضِ وأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ ابنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ(3) رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ، فرجع(4) ابنُ الدَّغِنَةِ(5) مَعَ أبي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ(6) قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ على نَوَائِبِ الدَهرِّ(7)، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا له(8):(9) مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ في دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فقَالَ ذَلِكَ ابنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ(10) يَعْبُدُ رَبَّهُ في دَارِهِ وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ وَلاَ القِرَاءَةِ(11)، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَينصَفُّ(12) عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ(13) بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ [مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إلى ابنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ(14)، فَقَالُوا لابنِ الدَّغِنَةِ(15): إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ في دَارِهِ، وَفَعَلَ كَذَا، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ في دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ(16)، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِي بَكْرٍ الاسْتِعْلاَنَ. [خ¦2297]
          (17) فَأَتَاه ابنُ الدَّغِنَةِ، فَقَالَ(18): قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ(19)، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَيْهِ(20)، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إليَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ العَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، / قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فإِنِّي(21) أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ ╡، وَالنَّبيُّ(22) صلعم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ النَّبيُّ(23) صلعم: قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ، وَرَجَعَ إِلَى المَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إلى أَرْضِ الحَبَشَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا(24)، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبيِّ صلعم، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ]
(25)).
          قال المُهَلَّبُ: هذا الجوار كان معروفًا بين العرب، وكان وجوه العرب يُجيرون مَنْ لجأ إليهم واستجار بهم، وقد أجار أبو طَالِبٍ النَّبيَّ صلعم، ولا يكون الجوار إلَّا مِنَ الظُّلم والعداء، ففي هذا مِنَ الفقه أنَّه إذا خشي المؤمن على نفسه مِنْ ظالمٍ أنَّه مباحٌ له وجائزٌ أن يستجير بمَنْ يمنعه ويحميه مِنَ الظُّلم، وإن كان مجيره كافرًا، إن أراد الأخذ بالرُّخصة، وإن أراد الأخذ بالشِّدَّة على نفسه فله ذلك كما ردَّ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيق ☺ على ابنِ الدَّغِنَةِ جواره، ورضي بجوار الله تعالى وجوار رسوله ◙، وأبو بَكْرٍ يومئذٍ مِنَ المستضعفين، فآثر الصَّبر على ما يناله مِنْ أذى المشركين، محتسبًا على الله ╡ وواثقًا به، فوفى الله له ما(26) وثق به فيه، ولم ينله مكروهٌ حتَّى أذن الله لنبيِّه ◙ في الهجرة(27)، فخرج أبو بَكْرٍ معه وأنجاهم(28) الله تعالى مِنْ كيد أعدائهما حتَّى بلغ مراده ╡ مِنْ إظهار النُّبوَّة وإعلاء الدِّين، وكان لأبي بَكْرٍ(29) ☺ في ذلك مِنَ الفضل والسَّبق في نصرة نبيِّه ◙ وبذل(30) نفسه وماله في ذلك ما لم يخف مكانه، ولا جهل موضعه.
          قال(31) أبو عليٍّ: (قطُّ) تجزم إذا كانت بمعنى التَّقليل، وتضمُّ وتثقَّل إذا كانت في معنى الزَّمن والحين مِنَ الدَّهر، تقول: لم أرَ هذا قطُّ، وليس عندي إلَّا هذا فقط، وأخفرت الرَّجل: نقضت عهده، وخفرته: منعته وحميته، وفي كتاب «الأفعال»: طفق بالشَّيء طفوقًا إذا أدام فعله ليلًا ونهارًا(32)، ومنه قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}[ص:33].


[1] زاد في المطبوع: ((قالت)).
[2] في المطبوع: ((أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو)).
[3] قوله: ((فاعبد)) ليس في (ز).
[4] في المطبوع: ((فارتحل)).
[5] زاد في المطبوع: ((فرجع)).
[6] زاد في المطبوع: ((كفَّار)).
[7] قوله: ((فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ على نَوَائِبِ الدَهرِّ)) ليس في (ز).
[8] في المطبوع: ((لابن الدَّغنة)).
[9] وقع طمس في (ص).
[10] زاد في المطبوع: ((أبو بكر)).
[11] زاد في المطبوع: ((بالقراءة في غير داره)).
[12] في المطبوع: ((فينقصف)).
[13] زاد في المطبوع: ((رجلًا)).
[14] قوله: ((مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إلى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ)) ليس في (ز).
[15] في المطبوع: ((فقالوا له)).
[16] في المطبوع: ((إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ على أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ في دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا فَإنَّهِ، إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ على أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ في دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أبى إِلاَ أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ)).
[17] زاد في المطبوع: ((قالت عائشة)).
[18] في المطبوع: ((فأتى ابن الدَّغنة أبا بكرٍ فقال:)).
[19] زاد في المطبوع: ((عليه)).
[20] في المطبوع: ((على ذلك)).
[21] في المطبوع: ((إنِّي)).
[22] في المطبوع: ((ورسول الله)).
[23] في المطبوع: ((رسول الله)).
[24] في (ز): ((مهاجر)).
[25] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).
[26] في (ز): ((بما)).
[27] في (ز): ((بالهجرة)).
[28] في (ز): ((ونجَّاهما))، وفي المطبوع: ((ونجَّاهم)).
[29] زاد في (ز): ((الصِّدِّيق)).
[30] في (ز): ((وبذله)).
[31] في (ز): ((وقال)).
[32] في (ز): ((أو نهارًا)).