شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من تكفل عن ميت دينًا فليس له أن يرجع

          ░3▒ بَابُ مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ
          وَبِهِ قَالَ الحَسَنُ.
          فيهِ سَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم أُتِيَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: عَلَيْهِ دَيْنٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ). [خ¦2295]
          وفيهِ جَابِرٌ، قَالَ رَسُولُ اللهِ(1) صلعم (لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا، فَلَمْ يَجِيء مَالُ البَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النَّبيُّ صلعم فَلَمَّا جَاءَ مَالُ البَحْرَيْنِ(2) أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبيِّ صلعم عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ لِي كَذَا، فَحَثَى لِي حَثْيَةً فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ، وَقَالَ: خُذْ مِثْلَهَا). [خ¦2296]
          وفيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً(3)؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً، صَلَّى عَلَيْهِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ الفُتُوحَ، قَالَ: أَنَا أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ وتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ). [خ¦2298]
          اختلف العلماء فيمَنْ تكفَّل عن مَيِّتٍ بدينٍ، فقال ابنُ أبي ليلى وأبو يُوسُف ومُحَمَّدٌ والشَّافعيِّ: الكفالة جائزةٌ عنه وإن لم يترك المَيِّت شيئًا، ولا يرجع به في مال الميت إن ثاب للمَيِّت مال، وكذلك إن كان للمَيِّت مالٌ وضمن عنه لم يرجع في قولهم، لأنَّه متطوِّعٌ، وقال(4) مالكٌ: إذا تكفَّل عن مَيِّتٍ فله أن يرجع في ماله، كذلك(5) إن قال: إنَّما أدَّيت(6) لأرجع في ماله، وإن لم يكن للمَيِّت مالٌ وعلم الضَّامن بذلك فلا رجوع له إن بان للمَيِّت مالٌ، قال ابنُ القَاسِمِ: لأنَّه بمعنى الحسبة(7).
          وشذَّ أبو حنيفةَ وخالفَ الحديثَ وقالَ(8): إذا لم يترك المَيِّت شيئًا فلا تجوز الكفالة، وإن ترك شيئًا جازت الكفالة بقدر ما ترك.
          وقال(9) الطَّحَاوِيِّ: هذا(10) خلافٌ لحديث النَّبيِّ صلعم، لأنَّه ◙ قد أجاز الضَّمان عن المَيِّت الَّذي لم يترك شيئًا، واحتجَّ مَنْ قال أنَّه لا رجوع له على المَيِّت وإن كان للمَيِّت مالٌ، أنَّه لو كان له رجوعٌ لقام الكفيل مقام الطَّالب، فلم يكن النَّبيُّ صلعم ليصلِّي عليه حين ضمن دينه أبو قَتَادَةَ، وحُجَّةُ مالكٍ أنَّ أبا قَتَادَةَ علم أنَّه لا وفاء للمَيِّت حين ضمن دينه، ولو علم أنَّ له مالًا وتكفَّل بدينه على أن يرجع به في ماله، لم يمنعه مِنْ ذلك كتابٌ ولا سنَّةٌ، بل هو الَّذي بيَّنه ◙ بقوله: ((لَا يَحِلُّ مَالُ امرِئٍ مُسْلِم ٍإِلَّا عَنْ طِيْبِ نَفْسٍ مِنْهُ))، وكذلك اختلافهم إذا تكفَّل عن حيٍّ بغير أمره، فقال الكوفيُّون والشَّافعيُّ: لا يرجع به عليه إذا أدَّاه، لأنَّه متطوِّعٌ، وروى ابن القَاسِمِ عن مالكٍ أنَّ له الرُّجوع بذلك على المطلوب، وحجَّة مالكٍ أنَّ كلَّ مَنْ فعل عن غيره(11) فعلًا كان واجبًا على الغير أن يفعله، / فإنَّه واجبٌ عليه الخروج ممَّا لزمه عنه(12) قياسًا على الإمام يستأجر على السَّفيه والممتنع مِنْ أداء الحقِّ.
          وقال المُهَلَّبُ: وأمَّا تحمُّل أبي بَكْرٍ لعِدَاتِ النَّبيِّ صلعم وديونه، فذلك لأنَّ الوعد منه ◙ يلزم فيه الإنجاز، لأنه من مكارم الأخلاق، وقد وصفه الله تعالى بأنه على خلق عظيم، وأثنى على إِسْمَاعِيْلَ ◙ أنَّه(13) كان صادق الوعد، وإنَّما صدَّق أبو بَكْرٍ مَنِ ادَّعى أنَّ له قِبَلَ النَّبيِّ صلعم عِدَةً أو دينًا لقوله ◙: ((لَيْسَ كَذِبٌ عَلَيَّ كَكَذِبِ عَلَى غَيْرِي، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مَتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) فهو(14) وعيدٌ، ولا نظنُّ بأن يقدم عليه مَنْ شهد الله تعالى لهم في كتابه أنَّهم خير أمَّةٍ أخرجت للنَّاس.
          وحديث أبي هريرةَ فيه: تكفُّل النَّبيِّ صلعم بديون مَنْ مات مِنْ أمَّته معدمًا، وتحمُّل كلِّ دينهم وضياع عيالهم، وقد جاء هذا الحديث بهذا اللَّفظ: ((وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَعَلَيَّ(15)))، قال: وهذا الحديث ناسخٌ لتركه ◙ الصَّلاة على مَنْ مات وعليه دينٌ.
          وقوله: (فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ) يعني ممَّا يفيء الله عليه مِنَ المغانم والصَّدقات الَّتي أمر الله تعالى بقسمها على الغارمين والفقراء، وجعل للذُّرِّيَّة نصيبًا في الفيء، وقضى منه دين المسلم، وهكذا يلزم السُّلطان أن يفعله لمَنْ(16) مات وعليه دينٌ، فإن لم يفعله وقع القصاص منهم(17) في الآخرة، ولم يُحبس الغريم عن الجنَّة بدينٍ له مثله في بيت المال، إلَّا أن يكون الدَّين الَّذي عليه أكثر ممَّا له في بيت المال ولم تفِ بذلك حسناته، ومعلومٌ أنَّ حقَّ المسلم في بيت المال(18) وإن لم يتعيَّن عنده مالٌ مِنْ ماله، يعلمه الَّذي أحصى كلَّ شيءٍ عددًا، ومحالٌ أن يُحبس عن الجنَّة مَنْ له مِنَ الحسنات عند مَنْ ظلمه ولا يقدر على الانتصاف منه في الدُّنيا ما(19) يفي بدينه، والله أعلم.


[1] في (ز): ((النَّبيُّ)).
[2] قوله: ((مال البحرين)) ليس في (ز).
[3] في (ز): ((فضلًا)).
[4] في المطبوع: ((قال)).
[5] في (ز): ((بذلك)).
[6] في (ز): ((وديت)).
[7] في المطبوع: ((الهبة))، وغير واضحة في (ص).
[8] في (ز): ((فقال)).
[9] في (ز): ((قال)).
[10] في (ز): ((وهذا)).
[11] في (ز): ((غير)).
[12] زاد في (ز): ((إليه)).
[13] في (ز): ((بأنَّه)).
[14] في (ز): ((فهذا)).
[15] قوله: ((فعليَّ)) ليس في (ز).
[16] في (ز) صورتها: ((بمن)).
[17] في المطبوع: ((منه)).
[18] قوله: ((ولم تفِ بذلك حسناته، ومعلومٌ أنَّ حقَّ المسلم في بيت المال)) ليس في (ص).
[19] في (ز): ((الانتصاف في الدُّنيا منه ما)).