عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب فضل ليلة القدر
  
              

          ░1▒ (ص) بَابُ فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ فضلِ ليلة القدر، ثبت في رواية أبي ذرٍّ قبلَ الباب بسملةٌ، ومعنى (لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ليلةُ تقدير الأمور وقضائها والحكمِ والفصلِ، يقضي الله فيها قضاء السَّنة، وهو مصدرُ قولهم: قدَّر الله الشيءَ قدْرًا وقدَرًا _لغتان_ ك(النَّهْرِ والنَّهَرِ)، وقدَّره تقديرًا بمعنًى واحدٍ، وقيلَ: سُمِّيت بذلك لخطرِها وشرفها، وعن الزُّهْريِّ: هي ليلة العظمة والشَّرفِ، من قول الناس: «لِفلانٍ عند الأميرِ قَدْرٌ» أي: جاهٌ ومنزلةٌ، ويقال: قَدَرْتُ فلانًا؛ أي: عظَّمته، قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ}[الأنعام:91] أي: ما عظَّموه حقَّ عظمتِه، وقال أبو بكر الورَّاق: سُمِّيَتْ بذلك لأنَّه مَن لم يكن ذا قدرٍ وخَطَرٍ يصيرُ في هذه اللَّيلة ذا قدرٍ وخَطَرٍ إذا أدركها وأحياها، وقيلَ: لأنَّ كلَّ عملٍ صالحٍ يوجد فيها مِنَ المؤمن يكون ذا قدرٍ وقيمةٍ عند الله تعالى؛ لكونه مقبولًا فيها، وقيل: لأنَّه أُنزِلَ فيها كتابٌ ذو قَدْرٍ، وقال سهل بن عبد الله: لأنَّ الله تعالى يُقدِّرُ الرحمةَ فيها على عباده المؤمنين، وقيل: لأنَّه يُنزِلُ فيها إلى الأرض ثلاثةً مِنَ الملائكة أولي قَدرٍ وذَوي خَطَرٍ، وعن الخليل بن أحمدَ: لأنَّ الأرض يضيقُ فيها بالملائكة من قوله ويقدِر، {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}[الطلاق:7]، وقيل: «القَدْرُ» هنا بمعنى «القدَر» _بفتحِ الدال_ الذي يواخي القضاءَ، والمعنى: أنَّهُ يُقدِّرُ فيها أحكامَ تلك السَّنةِ؛ لقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4] وقيل: إِنَّما جاء «القدْرُ» بسكون الدال وإن كان الشائعُ في «القَدَرِ» الذي هو يواخي «القضاء» فتحَ الدال؛ ليعلم أنَّهُ لم يُردْ به ذلك، وإِنَّما أريد به تفصيلُ ما جرى به القضاء وإظهارُه وتحديدُه في تلك السَّنة؛ لتحصيلِ ما يلقى إليهم فيها مقدارًا بمقدارٍ.
          (ص) وقَوْلِ الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر:1-5].
          (ش) (قَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفٌ على قولِه: (فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي: وفي بيان تفسير قولِ الله، وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقال اللهُ تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ...}> إلى آخره، وفي رواية كريمةَ السورةُ كلُّها مذكورةٌ.
          ومطابقةُ ذكر هذه السورةِ عقيبَ الترجمةِ لكونِها في هذه السورةِ قد ذُكِرَت مُكرَّرةً لأجل تفضيلها، وهذه السورةُ مئةٌ واثنا عشر حرفًا، وثلاثون كلمة، وخمسُ آيات، وهي مدنيَّة، قاله الضَّحَّاك ومقاتل، والأكثرُ على أنَّها مكيَّة، وقال الواقديُّ: هي أَوَّل سورةٍ نزلت بالمدينة.
          ({إِنَّا أَنزَلْنَاهُ}) أي: القرآنُ جملةً واحدةً في ليلة القدر مِنَ اللَّوح المحفوظ إلى السَّماء الدنيا، فوضعناه في بيت العزَّة، وأملاه جبريلُ ◙ على السَّفَرةِ، ثُمَّ كان يُنزِله جبريلُ ◙ على مُحَمَّدٍ صلعم نجومًا، فكان بين أوَّله إلى آخرة ثلاثةٌ وعشرون سنةً، ثُمَّ عجب نبيُّه صلعم ، فقال: ({وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}) يعني: ولم تبلغ درايتك غايةَ فضلها، ومنتهى علوِّ قدرها.
          قوله: ({لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}) وسببُ نزولها ما ذكره الواحديُّ بإسناده عن مجاهدٍ، قال: ذكر النَّبِيُّ صلعم رجلًا من بني إسرائيل لبِسَ السلاح في سبيل الله ألفَ شهر، فعجِب المسلمون مِن ذلك، فأنزلَ الله ╡ : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} قالَ: خيرٌ مِنَ الذي لبِسَ السلاحَ فيها ذلك الرجل انتهى، وذكر بعضُ المفسِّرين أنَّهُ كانَ في الزمن الأَوَّل نبيٌّ / يُقالُ له: شمسون ◙ ، قاتلَ الكفرةَ في دين الله ألفَ شهرٍ، ولم ينزع الثيابَ والسلاحَ، فقالت الصحابة: يا ليت لنا عُمُرًا طويلًا حَتَّى نقاتلَ مثلَه، فنزلت هذِه الآية، وأخبر النَّبيُّ صلعم أنَّ ليلة القدر خيرٌ مِن ألف شهرِ الذي لبِس السلاح فيها شمسُون في سبيل الله، والظاهر أنَّ ذلك الرجل الذي ذكره الواحديُّ هو شمسون هذا.
          وعن أبي الخطَّاب الجارود بن سُهَيلٍ: حَدَّثَنَا سَلْمُ بنُ قُتيبة: حَدَّثَنَا القاسمُ بن الفضل: حَدَّثَنَا عيسى بن مازن قال: قلت للحسن بن عليٍّ، ☻: عمدتَ لهذا الرجلِ فبايعتَ له؟! يعني: معاوية، فقال: إنَّ رسولَ الله صلعم أُرِيَ بني أميَّة يَعْلُون منبرَه خليفةً بعدَ خليفةٍ، فشقَّ ذلك عليه، فأنزل اللهُ تعالى سورةَ القدر، قال القاسمُ: فحسَبْنَا مُلْكَ بني أميَّة؛ فإذا هو ألفُ شهرٍ، وقيل: ذكر رسولُ الله صلعم يومًا أربعةً مِن بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين سنةً لم يعصوا طرفةَ عينٍ، فعجِبَت أصحابُ رسول الله صلعم من ذلك، فأتاه جبريلُ ◙ فقال: يا مُحَمَّد؛ عجبت أمَّتك مِن عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنةً لم يعصوا اللهَ طرفة عين؟! فقد أنزل الله عليك خيرًا مِن ذلك، ثُمَّ قرأ عليه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} الآيات، هذا أفضلُ مِمَّا عجبتَ أنتَ وأمَّتُك، فَسُرَّ النَّبِيُّ صلعم والناسُ معه.
          وذُكِرَ في بعض الكتب أنَّ أبا عروة قال: ذكر رسولُ الله صلعم يومًا أربعةً مِن بني إسرائيل، فقال: عبدوا الله تعالى ثمانين عامًا لم يعصُوه طرفةَ عينٍ، فذكر أيُّوبَ وزكريَّا وحزقيلَ ويوشعَ بنَ نون، ‰ ، ثُمَّ ذكر الباقي نحو ما ذكرنا، وعنِ ابن عَبَّاس: تفكَّر النَّبِيُّ صلعم في أعمار أمَّته وأعمار الأُمَم السالفة، فأنزلَ الله هذه السورة، وخصَّ هذه الأمَّةَ بتضعيف الحسنات؛ لقصرِ أعمارهم، ويقال: إنَّ الرجل فيما مضى كانَ لا يستحقُّ أن يقال له: (فلانٌ عابدٌ) حَتَّى يعبد اللهَ ألفَ شهر؛ وهي ثلاثٌ وثمانون سنةً وأربعةُ أشهرٍ، فجعل الله لأمَّة مُحَمَّد صلعم ليلةً خيرًا مِن ألف شهرٍ كانوا يعبدون فيها، وقيل: معناه: عملٌ صالحٌ في ليلة القدر خيرٌ مِن عمل ألف شهرٍ ليس فيها ليلةُ القدر، وقال مجاهد: سلامُ الملائكة والروح عليكَ تلك اللَّيلةَ خيرٌ مِن سلام الخلق عليك ألفَ شهر.
          قوله: ({تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ}) أي: جبريل ◙ ، ({فِيهَا}) أي: في ليلة القدر.
          قولُهُ تعالى: ({مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}) أي: تنزَّل مِن أجل كلِّ أمر قضاه الله وقدَّره في تلك السَّنة إلى قابل، تمَّ الكلامُ عندَ قوله: {مِن كُلِّ أَمْرٍ} ثُمَّ ابتدأَ فقال: ({سَلَامٌ}) أي: ما ليلةُ القدر إلَّا سلامةٌ وخيرٌ كلُّها، ليس فيها شرٌّ، وقال الضَّحَّاك: لا يقدِّرُ اللهُ في تلك اللَّيلة إلَّا السلامةَ كلَّها، فأَمَّا اللَّيالي الأُخَرُ فيُقضى فيهنَّ البلاء والسلامة، وقيل: هو تسليم الملائكة ليلةَ القدر على أهل المساجد مِن حينِ تغيبُ الشمس إلى أن يطلعَ الفجرُ، يمرُّون على كلِّ مؤمن ويقولون: السلام عليك يا مؤمنُ ({حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}) أي: إلى مطلعِ الفجر، قرأ الكسائيُّ وخلفٌ: {مَطْلِع} بكسر اللَّام، فَإِنَّهُ موضِعُ الطُّلوع، والباقون بفتح اللَّام، بمعنى الطُّلوع.
          (ص) قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ: {وَمَا أَدْرَاكَ} فَقَدْ أَعْلَمَهُ، وَمَا قَالَ: {وَمَا يُدْرِيكَ} فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ.
          (ش) هذا التَّعليقُ عن سفيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وصلَه مُحَمَّد بن يحيى بن أبي عُمَرَ في كتاب «الإيمان» له، مِن رواية أبي حاتمٍ الرَّازيِّ عنه، قال: حَدَّثَنَا سفيان بن عُيَيْنَةَ...؛ فذكره بلفظ: كلُّ شيء في القرآن: {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أخبرَه به، وكلُّ شيء فيه: {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يخبِرْه به، وقد اعتُرِضَ عليه في هذا الحَصْر بقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:3] فَإِنَّها نزلت في ابن أمِّ مَكتوم، وقد علِم صلعم بحالِه، وأنَّه ممَّن يزَّكَّى، ونفعتْه الذِّكرى، وقال بعضهم: وعزاه مُغلطاي _فيما قرأتُ بخطِّه_ لـ«تفسير ابنِ عُيَيْنَة» روايةَ سعيدِ بن عبد الرَّحْمَن عنه، وقد راجعتُ منه نسخةً بخطِّ الحافظ الضياء، فلم / أجده فيه انتهى.
          قُلْت: في هذه العبارةِ إساءةُ الأدب، لا يخفى ذلك على المُنصِفِ، وعدمُ وجدانه ذلك في نسخة الحافظ الضياءِ بخطِّه لا يستلزم عدمه بخطِّ غيره.