عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من قال: ليس على المحصر بدل
  
              

          ░4▒ (ص) باب مَنْ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان قول مَن قال: ليس على المُحصَر بدلٌ؛ أي: عوضٌ؛ أي: قضاءٌ لِمَا أُحصِر فيه مِن حجٍّ أو عُمْرةٍ.
          (ص) وَقَالَ رَوْحٌ عَنْ شِبْلٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاس: إِنَّما الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلَا يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ؛ نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ؛ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
          (ش) مطابقته للترجمة في قوله: (إِنَّما الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ).
          و(رَوْحٌ) بفتح الراء وسكون الواو، ابن عُبادة، بِضَمِّ العين وتخفيف الباء المُوَحَّدة، و(شِبْلٌ) بكسر الشين المُعْجَمة، ابن عَبَّاد _بفتح العين_ المَكِّيُّ، تلميذ ابن كثير في القراءة، وكان قدريًّا، و(ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ) هو عبد الله بن أبي نَجِيح، بفتح النون، وقد مرَّ غير مَرَّة.
          وهذا التعليق وصله إسحاق ابن راهُوْيَه في «تفسيره» عن روح بهذا الإسناد، وهو موقوفٌ على ابن عَبَّاس.
          قوله: (بِالتَّلَذُّذِ) أي: بالجماع.
          قوله: (عُذْرٌ) بِضَمِّ العين وسكون الذال المُعْجَمة، هكذا وقع في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذرٍّ <عدو> من العداوة، قال الكَرْمَانِيُّ: العذر: الوصف الطارئ [على المكلَّف المناسِب للتسهيل عليه، ولعلَّه أراد به ههنا نوعًا منه؛ كالمرض؛ ليصحَّ عطفُ] (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ) عليه، نحو نفاد نفقة أو سرقتها.
          قوله: (وَلَا يَرْجِعُ) أي: ولا يقضي، وهذا في النفل؛ إذ الفريضة باقية في ذمَّته كما كانت، وعليه أن يرجع لأجلها في سنةٍ أخرى، وقد رُوِي عن ابن عَبَّاس نحو هذا، رواه ابن جرير مِن طريق / عليِّ بن أبي طلحة عنه، وفيه: (فإن كانت حجَّة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه)، قال الكَرْمَانِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: ما الفرق بين حجِّ النفل الذي يفسد بالجماع، فَإِنَّهُ يجب قضاؤه، والنفل الذي يفوت عنه بسبب الإحصار؟ قُلْت: ذلك بتقصيره، وهذا بدون تقصيره، وعند أبي حنيفة: إذا تحلَّل المُحصَر لزمه القضاء سواء كان نفلًا أو فرضًا، وهذه مسألةُ اختلافٍ بين الصحابة ومَن بعدهم، فقال الجمهور: يذبح المُحصَر الهدي حيث يحلُّ سواء كان في الحلِّ أو الحرم، وقال أبو حنيفة: لا يذبحه إلَّا في الحرم، وفصَّل الآخرون كما قاله ابن عَبَّاس هنا.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما سبب الاختلاف في ذلك؟ قُلْت: منشأ الاختلاف فيه هل نحر النَّبِيُّ صلعم الهدي بالحديبية في الحلِّ أو في الحرم؟ وكان عطاءٌ يقول: لم ينحر يوم الحديبية إلَّا في الحرم، ووافقه ابن إسحاق، وقال غيره مِن أهل المغازي: إِنَّما نحر في الحلِّ، وأبو حنيفة أخذ بقول عطاءٍ، وفي «الاستذكار»: قال عطاء وابن إسحاق: لم ينحر صلعم هديه يوم الحديبية إلَّا في الحرم.
          (ص) وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا، وَلَا يَعُودُوا لَهُ، وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنَ الْحَرَمِ.
          (ش) الذي قاله مالكٌ مذكورٌ في «موطَّئه» ولفظه: أنَّهُ بلغه أنَّ رسول الله صلعم حلَّ هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلُّوا مِن كلِّ شيءٍ قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي، ثُمَّ لم نعلم أنَّ رسول الله صلعم أمر أحدًا من أصحابه ولا ممَّن كان معه أن يقضوا شيئًا، ولا أن يعودوا لشيء.
          قوله: (وَغَيْرُهُ) أي غير مالك، قال بعضهم: الذي يظهر لي أنَّهُ عنى به الشَّافِعِيَّ؛ لأنَّ قوله في آخره: «وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجَ الْحَرَمِ» هو كلام الشَّافِعِيِّ في «الأمِّ»، انتهى.
          قُلْت: قوله: (وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجَ الْحَرَمِ) لا يدلُّ على أنَّ المراد مِنَ (الغير) هو الشَّافِعِيُّ؛ لأنَّ الشَّافِعِيَّ نُقِل عنه أيضًا أنَّ بعضَ الحديبية في الحلِّ وبعضَها في الحرم، فإذا كان كذلك كيف يجوز أن يترك الموضع الذي مِنَ الحرم مِنَ الحديبية [وينحر في الحلِّ، والحال أنَّ بلوغ الكعبة صفةٌ لـ(الهدي) في قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة:95] وقد قال ابن أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه»: حَدَّثَنَا أبو أسامة عن أبي العُمَيس عن عطاء قال: (كان منزل النَّبِيِّ صلعم يوم الحديبية في الحرم) ]، فإذا كان منزل النَّبِيِّ صلعم في الحرم كيف ينحر هديه في الحلِّ؟ وهذا محالٌ.
          قوله: (فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ) ويروى: <في أيِّ المواضع >، [وقال الكَرْمَانِيُّ: «كان» أي: الحصر لا الحلق].
          قُلْت: إِنَّما فسَّره بهذا لأجل مذهبه، وليس كذلك، بل الضمير في (كان) يرجع إلى الحلق الذي يدلُّ عليه قوله: (وَيَحْلِقُ).
          قوله: (وَلَا يَعُودُوا لَهُ) كلمة (لا) زائدة؛ كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ}[الأعراف:12].
          قوله: (وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ [مِنَ] الْحَرَمِ) قال الكَرْمَانِيُّ: هذه الجملة يحتمل أن تكون مِن تتمَّة كلام مالك وأن تكون مِن كلام البُخَاريِّ، وغرضه الردُّ على مَن قال: لا يجوز النحر حيث أُحصِر، بل يجب البعثُ إلى الحرم، فلمَّا أُلزِموا بنحر رسول الله صلعم ؛ أجابوا بأنَّ الحديبية إِنَّما هي مِنَ الحرم، فرُدَّ ذلك عليهم، انتهى.
          قُلْت: هذه الجملةُ _سواءٌ كانت مِن كلام مالك أم مِن كلام البُخَاريِّ_ لا يدلُّ على غرضه؛ لأنَّ كون الحديبية خارج الحرم ليس مُجمَعًا عليه، وقد روى الطَّحَاويُّ من حديث الزُّهْريِّ عن عروة عن المِسْوَر: (أنَّ رسول الله صلعم كان بالحديبية خباؤه في الحلِّ ومصلَّاه في الحرم)، ولا يجوز في قول أحدٍ مِنَ العلماء لِمَن قدر على دخول شيءٍ مِنَ الحرم أن ينحر هديه دون الحرم، وروى البَيْهَقيُّ من حديث يونس / عن الزُّهْريِّ عن عروة بن الزُّبَير عن مروان والمِسْوَر بن مَخْرَمة قالا: خرج رسول الله صلعم زمن الحديبية في بضع عشْرةَ مئة مِن أصحابه...» الحديث بطوله، وفيه: «وكان مُضطَرَبُه في الحلِّ، وكان يصلِّي في الحرم» انتهى.
          قُلْت: (المُضطَرَب) هو البناء الذي يُضرَب ويُقَام على أوتاد مضروبة في الأرض، و(الخِباء) بكسر الخاء: بيتٌ من صوفٍ أو وبرٍ، والجمع (أخبية)، وإذا كان مِن شَعرٍ يُسمَّى بيتًا.