عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

ذكر ما يستفاد منه
  
              

          ذِكْرُ ما يُستفَاد منهُ:
          قد ذكرنا أنَّ هذا الحديثَ مُشتَمِلٌ على أربعة أحكام:
          الأَوَّل: في حكمِ المرأة التي تسافر، وفيه خمسة مذاهب:
          الأَوَّل: مذهبُ الحسن البَصْريِّ والزُّهْريِّ وقتادةَ، فَإِنَّهُم قالوا: لا يجوز للمرأة أن تسافر لَيلتَين بلا زوجٍ أو محرم، فإذا كان أقلَّ مِن ذلك يجوزُ، واحتجُّوا في ذلك بالحديث المذكور.
          الثاني: مذهبُ إبراهيمَ النَّخعِيِّ والشعبيِّ وطاوُوس والظاهريَّة، فَإِنَّهُم قالوا: لا يجوز للمرأة أن تسافرَ مطلقًا، سواءٌ كان السفرُ قريبًا أو بعيدًا إلَّا إذا / كان معها زوج أو ذو محرم لها، واحتجُّوا في ذلك بما رواه الطَّحَاويُّ: حَدَّثَنَا عبد الأعلى قال: حَدَّثَنَا سفيان بن عُيَيْنَةَ عن عَمْرو: سمع أبا مَعْبَد مولى ابنِ عَبَّاس يقول: قال ابن عَبَّاس: خطب رسولُ الله صلعم النَّاسَ فقال: لا تسافرِ امرأةٌ إلَّا ومعها ذو محرم، ولا يدخل عليها رجلٌ إلَّا ومعها ذو محرم، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله؛ إنِّي قد اكتتبت في غزوةِ كذا وكذا، وقد أردت أن أحجُّ بامرأتي؟ فقال رسول الله صلعم : «احجج مع امرأتك»، ورواه البُخَاريُّ ومسلم وابن ماجه نحوه، قالوا بعمومِ الحديث واشتماله على حكمِ السفر مطلقًا، وروى الطَّحَاويُّ أيضًا من حديث سعيد المقبريِّ عن أبي هُرَيْرَة: أنَّ رسولَ الله صلعم قال: «لا تسافر المرأةُ إلَّا ومعها ذو محرم» وأخرجه البَزَّارُ عنه نحوه.
          الثالث: مذهبُ عطاءٍ وسعيد بن كَيْسانَ وقومٍ مِنَ الظاهريَّة، فَإِنَّهُم قالوا بجواز سفر المرأة فيما دونَ البريد، فإذا كان بريدًا فصاعدًا فليسَ لها أن تسافر إلَّا بمحرم، واحتجُّوا في ذلك بما رواه الطَّحَاويُّ ثُمَّ البَيْهَقيُّ من حديث سعيد المقبريِّ عن أبي هُرَيْرَة قال: قال رسول الله صلعم : «لا تسافرِ امرأةٌ بريدًا إلَّا مع زوجٍ أو ذي محرم»، وأخرجه أبو داود أيضًا، و(البريد) فرسخان، وقيل: أربعة فراسخَ، و(الفرسخ) ثلاثة أميال، و(الميل) أربعة آلاف ذراع.
          الرابع: مذهب الأوزاعيِّ واللَّيث ومالك والشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُم قالوا: للمرأة أن تسافر فيما دون اليومِ بلا محرم، وفيما زاد على ذلك لا، إلَّا بزوج أو محرم، لكن عند مالك والشَّافِعِيِّ لها أن تسافرَ للحجِّ الفرض بلا زوجٍ ومحرم، وإن كان بينَها وبينَ مكَّة سفرٌ أو لم يكن؛ فَإِنَّهُما خصَّا النَّهي عن ذلك بالأسفار الغير الواجبة، واحتجُّوا في ذلك بما رواه مسلم مِن حديث أبي سعيد: أنَّ أباه أخبرَه: أنَّهُ سمع أبا هُرَيْرَة يقول: قال رسول الله صلعم : «لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافرَ مسيرةَ يومٍ إلَّا مع ذي محرَم».
          الخامس: مذهب الثَّوْريِّ والأعمش وأبي حنيفة وأبي يوسفَ ومُحَمَّد، فَإِنَّهُم قالوا: ليس للمرأة أن تسافر مسافةَ ثلاثةِ أيَّامٍ فصاعدًا إلَّا بزوجٍ أو محرَمٍ، وإذا كان أقلَّ مِن ذلك فلها أن تسافر بغير محرم، واحتجُّوا في ذلك بما رواه أبو داود: حَدَّثَنَا أحْمَد ابن حَنْبَل قال: حدَّثني يحيى بن سعيدٍ عن عُبَيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النَّبيِّ صلعم قال: «لا تسافر المرأةُ ثلاثًا إلَّا ومعها ذو محرم»، وأخرجه الطَّحَاويُّ أيضًا.
          ثُمَّ التوفيقُ بينَ هذه الروايات وبيانِ العمل بحديث الثلاثِ هو أنَّ هذه الأحاديثَ كلَّها متَّفقةٌ على حرمة السفر عليها بغير محرم مسافةَ ثلاثة أيَّامٍ فما فوقها، وفي تقييده بـ(الثلاث) إباحةٌ لِما دونَها؛ إذ لو لم يكن كذلك لَما كانَ لتعيين (الثلاث) فائدةٌ، ولَكان نهى مطلقًا، وكلام الحكيم يُصان عن اللَّغو وعمَّا لا فائدة فيه، فإذا ثبت بذكر (الثلاث) [وتعيُّنه إباحةُ ما دونَه؛ يحتاج إلى التوفيق بينَه وبينَ ما رويَ مِنَ اليوم واليومين والبريد، فيقال: إنَّ خبر «الثلاث»] إن كانَ متأخِّرًا فهو ناسخٌ، وإن كان متقدِّمًا فقد جاء الإباحةُ بأقلَّ منه، ثُمَّ جاء النهي بعدَه عن سفر ما دونَ الثلاث، فحرَّم ما حرَّم الحديث الأَوَّل، وزاد عليه حرمةً أخرى؛ وهي ما بينه وبين الثلاث، فوجب استعمالُ الثلاث على ما أوجبه في الأحوال كلِّها، فحينئذٍ الأخذ به أولى مِنَ الذي يجب في حال دون حال، وقال عياضٌ: عن أبي سعيد في روايةِ «ثلاث ليال» وفي رواية أخرى عنه: «يومين» [وفي الأخرى أكثر مِن ثلاث، وفي حديث ابن عمر: ثلاث، وفي حديث أبي هُرَيْرَة: مسيرة ليلة، وفي الأخرى عنه: يومًا] وليلة، وفي الأخرى عنه: ثلاث، وهذا كلُّه لا يتنافر ولا يختلف، فيكون صلعم منع من يومين ومن ثلاثٍ، ومِن يومٍ أو يومٍ وليلةٍ، وهو أقلُّها، وقد يكون هذا منه صلعم في مواطنَ مختلفة / ومنازلَ متفرقةٍ، فحدَّث كلُّ مَن سمعها بما بلغه منها [وشاهده، وإن حدَّث بها واحدٌ، فحدَّث مرَّات بها على اختلافِ مَا سمعها].
          الحكمُ الثاني: في صوم يومي العيدين؛ أَمَّا صومُ يوم عيد الفطرِ فحُرِّمَ؛ لكونه عيدَ المسلمين، وأَمَّا صومُ يومِ عيد الأضحى فحُرِّمَ؛ لأنَّه يومُ القرابين؛ وهو يوم ضيافة الله تعالى، والصومُ فيه إعراضٌ عن ضيافةِ الله تعالى، وقد روى الزُّهْريُّ عن أبي عُبَيدٍ مولى عبد الرَّحْمَن بن عوفٍ قال: شهدتُ عُمَرَ بن الخَطَّاب ☺ في يوم نحرٍ بدأ بالصلاةِ قبلَ الخطبة، ثُمَّ قال: سمعتُ رسول الله صلعم ينهى عن صوم هذين اليومين، أَمَّا يوم الفطر ففطرُكم مِن صومكم وعيدٌ للمسلمين، وأَمَّا يوم الأضحى فكلُوا مِن لحم نُسِكِكُم، رواه التِّرْمِذيُّ بهذا اللَّفظ، ورواه أيضًا بقيَّة السِّتَّة من طرق عن الزُّهْريِّ.
          قوله: (أَمَّا يوم الفطر ففطركم) أي: فهو يوم فطركم، ووصفه بذلك؛ لبيان العلَّة؛ وهو الفصل بين الصوم والفطر، ليُعلَمَ انتهاءُ الصوم ودخول الفطر، وقوله: (وعيد للمسلمين) علَّة ثانية، وكأنَّه كان من المعلوم أنَّهُ لا يصام يومُ عيده.
          وقوله: (وأَمَّا يوم الأضحى فكلُوا مِن لحم نُسكِكُم) وأشارَ به إلى العلَّة أيضًا؛ لأنَّه لو كان يومَ صومٍ؛ لم يؤكل مِنَ النُّسُكِ ذلك اليومِ، فلم يكن لنحرها فيه معنًى، وقيل: إنَّ العلَّة في الفطر يوم النَّحر أنَّ فيه دعوةَ الله التي دعا عبادَه إليها مِن تضييفه وإكرامِه لأهل منًى وغيرهم؛ لِما شرع لهم مِن ذبح النُّسُكِ والأكل منها، فمَن صام هذا اليوم فكأنَّه ردَّ على الله كرامتَه، وحكى صاحبُ «المُفهِم» عن الجمهور أنَّ فطرَهما شرعٌ غيرُ مُعلَّلٍ، وفي أمر عمرَ ☺ بالأكل من لحم النُّسُكِ إشارةٌ إلى مشروعيَّة الأكل مِنَ الأضحية، وهو مُتَّفقٌ على استحبابه، واختُلِفَ في وجوبه، وتحريمُ صومِ هذين اليومين أمرٌ مُجمَعٌ عليه بين أهل العلم، وكلٌّ منهما غيرُ قابل للصوم عندهم، إلَّا أنَّ الرافعيَّ حكى عن أبي حنيفة أنَّهُ لو نذر صومَهما لَكانَ له أن يصومَ فيهما.
          قُلْت: ليس كذلك مذهبُ أبي حنيفة، وإِنَّما مذهبه أنَّهُ لو نذر صومَ يومِ النَّحرِ أفطر وقضى يومًا مكانَه، أَمَّا الفطر فلأنَّ الصومَ فيه معصيةٌ، وأَمَّا القضاءُ فلأنَّه نذر بصومٍ مشروعٍ بأصله، والنهيُ لا ينافي المشروعيَّة، كما تقرَّر في الأصول، وسيأتي البحثُ فيه مُستقصًى في (كتاب الصوم).
          الحكم الثالث: في الصلاة بعد الصبح، وقد مرَّ في (كتاب الصلاة).
          الحكم الرابع: في شدِّ الرِّحالِ، وقد مرَّ في الباب السابق مُستقصًى.