عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

ذكر لطائف إسناده
  
              

          ذِكْرُ لطائِفِ إسنادِهِ:
          فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه: العنعنة في موضعٍ واحدٍ، وفيه: السماع في موضعَين، وفيه: القول في ثلاثة مواضعَ، وفيه: أنَّ شيخَه بصريٌّ، وشعبة واسطيٌّ، وعبد الملك كوفيٌّ، وقزعة بصريٌّ.
          وقد ذكرنا في (باب فضل الصلاة في مسجد مكَّة والمدينة) مَن أخرجَه غيرُه، وتعدُّدَ إخراج البُخَاريُّ إيَّاه، وقد اقتصر البُخَاريُّ هناك في هذا الحديث على قطعة منه، وذكر ههنا تمامه، وأخرج هناك أيضًا عن أبي هُرَيْرَة آخِرَ حديث أبي سعيد الذي ذكره ههنا؛ وهو قوله: «لا تُشدُّ الرِّحَالُ...» وقد تكلَّمنا فيه هناك مستقصًى.
          وبقيَ الكلامُ في بقيَّة الحديث، فنقول:
          قوله: (يُحَدِّثُ بِأَرْبَعٍ) جملة وقعت حالًا مِن (أَبِي سَعِيدٍ) أي: يحدِّث بأربع كلماتٍ كلُّها حِكَمٌ؛ الأولى قوله: (لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ)، والثانية قوله: (لَا صَوْمَ)، والثالثة قوله: (لَا صَلَاةَ)، والرَّابعة قوله: (لا تُشدُّ الرِّحَالُ).
          قوله: (فَأَعْجَبْنَنِي) بلفظِ صيغةِ الجمع للمؤنَّث، ويروى: <فأعجبتني > بصيغة الإفراد، والضميرُ الذي فيه يرجعُ إلى قوله: (بأربعٍ).
          قوله: (وَآنَقْنَنِي) كذلك بلفظ الجمع والإفراد، وهو بمدِّ الهمزة وفتح النون وسكون القاف، يقال: آنقه؛ إذا أعجبه، وشيءٌ مُؤنِقٌ؛ أي: مُعجِب، وقال ابن الأثير: «الأَنَقُ» بالفتح: الفَرَح والسرور، والشيءُ الأنيقُ: المُعجِب، والمحدِّثون يروُونه: «أَيْنَقنَنِي»، وليسَ بشيءٍ، وقد جاء في «صحيح مسلم»: «لا أينَقُ بحديثه» أي: لا أعجبُ، وهي كذا تروى، وضبطه الأصيليُّ: <أتَقْنَنِي> بتاء مُثَنَّاة من فوقُ، مِنَ التَّوق، وليس كذلك، إِنَّما الصواب أن يقال مِنَ التَّوق: تَوَّقْنَنِي؛ كما يقال: شوَّقنَنِي، مِنَ الشوق، وقال بعضهم: «فأعجبْنَنِي» تأكيدٌ لفظيٌّ.
          قُلْت: ليسَ كذلك؛ لأنَّ التأكيد اللَّفظيَّ أن يُكرَّرَ عين اللَّفظ الواحد.
          قوله: (أَوْ ذُو مَحْرَمٍ) قال النَّوَوِيُّ: المَحْرَمُ مِنَ النساء: مَن حرُمَ نكاحُها على التأبيدِ؛ بسببٍ مباحٍ لحرمتها، قولُنا: «على التأبيدِ» احترازٌ مِن أخت المرأة، و«بسببٍ مباحٍ» احترازٌ مِن أمِّ الموطوءَة بالشبهة؛ لأنَّ وطءَ الشبهةِ لا يوصف بالإباحة؛ لأنه ليس بفعل مُكلَّف، و«لحرمتها» احترازٌ من الملاعنة، فإنَّ تحريمَها ليسَ لحرمتها، بل عقوبةً وتغليظًا، قال أصحابنا: «المَحرَم» كلُّ من لا يحلُّ له نكاحُها على التأبيد؛ لقرابة أو رَضاع أو صِهريَّة، والعبدُ والحرُّ والمسلمُ والذِّمِّيُّ سواءٌ إلَّا المجوسيَّ الذي يعتقدُ إباحةَ نكاحها، والفاسق لأنَّه لا يحصل به المقصود، ولا بدَّ فيه من العقل والبلوغ؛ لعجز الصبيِّ والمجنون عن الحفظ.