عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب فضل العمل في أيام التشريق
  
              

          ░11▒ (ص) بابُ فَضْلِ العَمَلَ فِي أيَّامِ التَّشْرِيقِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان فضل العمل في أيَّام التَّشريق، وهو مصدرٌ من شَرَّقَ اللَّحمَ؛ إذا بَسَطَهُ في الشَّمس ليجفَّ، وسُمِّيَت بذلك أيَّام التَّشريق؛ لأنَّ لحوم الأضاحي كانت تُشَرَّقُ فيها بمِنًى، وقيل: سُمِّيَت به لأنَّ الهَدْيَ والضَّحايا لا تُنحَر حَتَّى تشرق الشَّمس؛ أي: تَطْلُع، وكان المشركون يقولون: (أَشْرِق ثَبِيْر كيما نُغِيْر)، (ثَبِيْر) بفتح الثَّاء المُثَلَّثة وكسر الباء المُوَحَّدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء، وهو جبل بمِنًى؛ أي: ادْخُل أيُّها الجبل في الشُّروق؛ وهو ضوء الشَّمس، (كيما نُغِير) أي: ندفع للنَّحر، وذكر بعضهم أنَّ أيَّام التَّشريق سُمِّيَت بذلك، وقيل: (التَّشريق) صلاة العيد؛ لأنَّها تؤدَّى عند إشراقِ الشَّمس وارتفاعها؛ كما جاء في الحديث: (لا جمعةَ [ولا تشريقَ إلَّا في مِصْرٍ جامع)، أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إلى عليٍّ ☺ موقوفًا، ومعناه: لا صلاة جمعة] ولا صلاة عيد، وفي «الخلاصة»: أيَّام النَّحر ثلاثة، وأيَّام التَّشريق ثلاثة، ويمضي ذلك في أربعة أيَّام، فإنَّ العاشر من ذي الحجَّة نحرٌ خاصٌّ، والثَّالث عشر تَشْرِيقٌ خاصٌّ، وما بينهما اليومان للنَّحر والتَّشريق جميعًا.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻: وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ: أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
          (ش) قال ابن عَبَّاس: (وَاذْكُرُوا اللهَ...) إلى آخره، رواية كريمة وابن شَبُّوْيَه، ورواية المُسْتَمْلِي والحمُّوي: <وَيَذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ >، ورواية أبي ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ: <وَيَذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ>، [الحاصل مِن ذلك: أنَّ ابن عَبَّاس لا يريد به لفظ القرآن؛ إذ لفظه هكذا: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}[الحج:28]]، ومراده أنَّ (الأيام المعلومات) هي العشر الأَوَّل من ذي الحجَّة، و(الأيَّام المعدودات) المذكورة في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}[البقرة:203] هي الأيَّام الثَّلاثة؛ الحادي عشر مِن ذي الحجَّة المُسَمَّى يوم النَّفر، والثَّاني عشر والثَّالث عشر المسمَّيان بالنَّفر الأَوَّل والنَّفر الثاني.
          والتَّعليقُ المذكورُ وصله عبد بن حُمَيْد في «تفسيره»: حَدَّثَنَا قَبِيصَة عن سفيان، عن ابن جُرَيْج، عن عَمْرو بن دينار: سمعت ابنَ عَبَّاس يقول: ({اذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}[البقرة:203]: الله أكبر، «اذكروا الله في أيَّام معلومات»: الله أكبر، الأيَّامُ المعدودات أيَّامُ التَّشريق، والأيَّامُ المعلوماتُ العشر).
          واختلف السَّلف في (الأيَّام المعدودات) و(المعلومات) ؛ فـ(الأيَّام المعلومات) العَشْر، و(المعدودات) أيَّام التَّشريق، وهي ثلاثة أيَّام بعد يوم النَّحر عند أبي حنيفة، رواه عنه الكَرْخيِّ، وهو قول الحسنِ وقتادةَ، ورُوِيَ عن عليٍّ وابن عمر: أنَّ (المعلومات) هي ثلاثة أيَّام النَّحر، و(المعدودات) أيَّام التَّشريق، وهو قول أبي يوسف ومُحَمَّد، سُمِّيَت معدوداتٍ لقِلَّتِهِنَّ، ومعلوماتٍ لِجَزْمِ النَّاس على علمها لأجل فعل المناسك في الحجِّ، وقال الشَّافِعِيُّ: مِنَ الأيَّام المعلومات النَّحر، ورُويَ عن عليٍّ وعمر: يوم النَّحر ويومان بعده، وبه قال مالكٌ، قال الطَّحَاويُّ: وإليه أذهبُ؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}[الحج:28] وهي أيَّام النَّحر، سُمِّيَت معدوداتٍ لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة:203]، وسُمِّيَت أيَّامُ التَّشريق معدوداتٍ؛ لأنَّه إذا زِيدَ عليها في البقاء كان حَصرًا؛ لقوله صلعم : «لا يَبْقَيَنَّ مُهَاجِرِيُّ بِمَكَّةَ بعد قضاء نُسُكِهِ فوق ثلاث».
          (ص) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا.
          (ش) كذا ذكره البَغَويُّ والبَيْهَقيُّ عنِ ابن عمر وأبي هُرَيْرَة مُعَلَّقًا، وقال صاحبُ «التَّوضيح»: أخرجه الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا إبراهيم بن مُحَمَّد: أخبرني عُبيد الله عن نافعٍ، عن ابن عمر: أنَّهُ كان يغدو إلى المُصَلَّى يوم الفِطر إذا طلعت الشَّمس، فيكبِّر حَتَّى يأتِيَ المُصَلَّى يوم العيد، ثُمَّ يكبِّر بالمُصَلَّى، حَتَّى إذا جلس الإمامُ؛ ترك التَّكبير، زاد في «المصنَّف»: ويرفع صوته حَتَّى يبلغ / الإمام.
          قُلْت: الَّذي رواه الشَّافِعِيُّ ليس بمطابقٍ لِما علَّقه البُخَاريُّ، فكيف يقول صاحب «التَّوضيح»: أخرجه الشَّافِعِيُّ؟! ولهذا قال صاحب «التَّلويح» الَّذي هو عمدته في «شرحه»: (قال الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا إبراهيم...) إلى آخره، ولم يقل: أخرجه ولا وصله، ونحو ذلك، قال البَيْهَقيُّ: ورواه عبد الله بن عُمَر عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا إلى النَّبِيِّ صلعم [في رفع الصَّوت بالتَّهليل والتَّكبير حَتَّى يأتيَ المَصَلَّى، ورُوِيَ في ذلك عن عليٍّ وغيره من أصحاب النَّبِيِّ صلعم ].
          واعتُرِضَ على البُخَاريِّ في ذكر هذا الأثر في ترجمة (العمل في أيَّام التَّشريق)، وأجيب: بأنَّ البُخَاريَّ كثيرًا يذكر الترجمة ثُمَّ يضيف إليها ما له أدنى مُلابَسة بها استطرادًا.
          (ص) وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ.
          (ش) (مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ) ابن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب ♥ ، المعروف بالباقِرِ، مرَّ في (باب مَن لم يرَ الوضوء إلَّا مِنَ المخرجين).
          وهذا التَّعليق وصله الدَّارَقُطْنيُّ في «المؤتلف» مِن طريق معن بن عيسى القزَّاز: حدَّثَنا أبو وَهْنَة رُزَيق المَدَنِيُّ قال: رأيت أبا جعفر مُحَمَّدَ بن عليٍّ يكبِّر بمِنًى في أيَّام التَّشريق خلف النَّوافل، و(أبو وَهْنَة) بفتح الواو وسكون الهاء وبالنون، و(رُزَيق) بتقديم الرَّاء مُصَغَّرًا.
          وقال السَّفاقِسيُّ: لم يتابِع مُحَمَّدًا على هذا أحدٌ، وعن بعض الشَّافِعِيَّة: يكبِّر عَقِيبَ النَّوافل والجَنَائِز على الأصحِّ، وعن مالك قولان، والمشهور أنَّهُ يختصُّ بالفرائض، قال ابن بَطَّالٍ: وهو قول الشَّافِعِيِّ، وسائرُ الفقهاء لا يرون التَّكبير إلَّا خلف الفريضة، وفي «الأشراف»: التَّكبيرُ في الجماعة مذهبُ ابن مسعود، وبه قال أبو حنيفة، وهو المشهور عن أحمد، وقال أبو يوسف ومُحَمَّدٌ ومالكٌ والشَّافِعِيُّ: يكبِّر المنفرد، والصَّحيح مِن مذهب أبي حنيفة أنَّ التَّكبير واجب، وفي «قاضي خان»: سُنَّة، وبه قال الشَّافِعِيُّ ومالكٌ وأحمدُ، واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة: هل يُشتَرط على إقامته الحرِّيَّة أم لا؟ والأصحُّ أنَّها ليست بشرط عنده، وكذا السُّلطان ليس بشرط عنده، وليس على جماعة النِّساء إذا لم يكن مَعَهُنَّ رجل، فإذا كان؛ يجب عَلَيْهِنَّ بطريق التَّبَعِيَّة.