عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء
  
              

          ░5▒ (ص) بابُ صَلَاةِ الطَّالِبِ والمَطْلُوبِ راكبًا وقَائِمًا.
          (ش) أي: هذا باب في بيان صلاة الطَّالب وصلاة المطلوب.
          قوله: (راكِبًا) حال.
          قوله: (وَقائِمًا) عطف عليه، وفي بعض النُّسَخ: <أو قائمًا>، مِنَ القيام؛ بالقاف في رواية الحمُّوي وفي رواية الأكثرين: <راكبًا وإيماء> أي: حال كونه مُومِئًا.
          (ص) وَقَالَ الْوَلِيدُ: ذَكَرْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ صَلَاةَ شُرَحْبِيل بْنِ السَّمِطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَ الْفَوْتَ، وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ».
          (ش) مطابقتُه للترجمة مِن حيث إن شُرَحْبِيل ومَن معه كانوا رُكبانًا، والإجماع على أنَّ المطلوب لا يصلِّي إلَّا راكبًا، فكانوا مطلوبين راكبين، ولو كانوا طالبين أيضًا فالمطابقة حاصلة.
          و(الْوَلِيدُ) بفتح الواو: هو ابن مسلم القرشيُّ الأمويُّ الدِّمَشْقيُّ، يُكْنَى أبا العَبَّاس، وقال كاتب الواقديِّ: حجَّ سنة أربع وتسعين ومئة، ثُمَّ انصرف فمات في الطَّريق قبل أن يصل إلى دمشق، و(الْأَوْزَاعِيُّ) هو عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو، و(شُرَحْبِيلُ) بِضَمِّ الشين المُعْجَمة وفتح الراء وسكون الحاء المُهْمَلة وكسر الباء المُوَحَّدة (ابنُ السَّمِط) بفتح السين المُهْمَلة وكسر الميم، على وزن (الكَتِف) قاله الغسَّانيُّ، وقال ابن الأثير: بكسر السين وسكون الميم، / ابن الأسود بن جَبَلة بن عَدِيِّ بن ربيعة بن معاوية الأكْرَمِين بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مُرَتِّع بن كِنْدَة الكِنديُّ أبو يزيد، ويقال: أبو السِّمْط الشاميُّ، مختلفٌ في صحبته، ذكره في «الكمال» مِنَ التَّابِعينَ، وقال: ويقال: له صُحبةٌ مِنَ النَّبيِّ صلعم ، ويقال: لا صُحبة له، وذكره مُحَمَّد بن سعدٍ في الطَّبقة الرَّابعة، وقال: جاهليٌّ إسلاميٌّ، وفد إلى النَّبِيِّ صلعم وأسلم، وقد شهد القَادِسِيَّة وَولِّي حِمْصَ، وهو الَّذي افتتحها وقسَمها منازل، وقال النَّسائيُّ: ثقةٌ، وقال أحمد بن مُحَمَّد بن عيسى البغداديُّ صاحب «تاريخ الحِمْصيِّين»: تُوفِّي بسَلَمِيَّة سنة ستٍّ وثلاثين، ويقال: سنة أربعين، ويقال: مات بصِفِّين، وليس له في «البُخَاريِّ» غير هذا الموضع.
          وهو تعليقٌ رواه الطبريُّ وابن عبد البرِّ مِن وجه آخر عن الأوزاعيِّ قال: قال شُرَحْبِيل بن السَّمِط لأصحابه: لا تصلُّوا الصُّبح إلَّا على ظهرٍ، فنزل الأشتر _يعني: النَّخَعيَّ_ فصلَّى على الأرض، فقال شُرَحْبِيل: مخالفٌ خَالَفَ اللهُ به، وروى ابن أبي شَيْبَةَ عن وكيع: حَدَّثَنَا ابن عون عن رجاء بن حَيْوة الكنديِّ قال: كان ثابت بن السِّمْط _أو السمط بن ثابت_ في مسيرٍ في خوفٍ، فحضرت الصلاة فصلَّوا ركبانًا، فنزل الأشتر، فقال: ما له؟ فقالوا: نزل يصلِّي، قال: ما له خالف؟ خُولِف به انتهى.
          وذكر ابن حِبَّان: أنَّ ثابت بن السَّمِط أخو شُرَحْبِيل بن السَّمِط، فإذا كان كذلك فيشبه أن يكونا كانا في ذلك الجيش، فنُسِبَ إلى كلٍّ منهما، وقد ذكر شُرَحْبِيلَ جماعةٌ في الصَّحابة، وثابتًا في التَّابِعينَ، وقال ابن بَطَّالٍ: طلبتُ قصَّةَ شُرَحْبِيل بن السَّمِط بتمامها لأتبيَّن هل كانوا طالبين أم لا؟ فذكر الفَزاريُّ في «السُّنَنِ» عن ابن عَونٍ عن رجاء عن ثابت بن السَّمِط _أو السَّمِط بن ثابت_ قال: كانوا في السَّفر في خوفٍ فصلَّوا رُكبانًا، فالتفت فرأى الأشتر قد نزل للصَّلاة، فقال: خالف خُولِفَ به، فخرج الأشتر في الفِتنة، قال: فبان بهذا الخبر أنَّهم كانوا حين صلَّوا رُكبانًا؛ لأنَّ الإجماع حاصلٌ على أنَّ المطلوب لا يصلِّي إلَّا راكبًا، وإِنَّما اختلفوا في الطَّالب وقال ابن التِّين: صلاة ابن السِّمْط ظاهرها أنَّها كانت في الوقت، وهو مِن قوله تعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}[البقرة:239].
          قوله: (كَذَلِكَ الأَمْرُ) أي: أداء الصَّلاة على ظهر الدَّابة بالإيماء هو الشَّأنُ والحكمُ عند خوف فوات الوقت، أو فوات العدوِّ، أو فوات النَّفس.
          قوله: (وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ) أي: الوليد المذكور، وقال بعضهم: معناه أنَّ الوليد قوَّى مذهب الأوزاعيِّ في مسألة الطَّالب بهذه القصَّة.
          قُلْت: لا يُفهم مِن احتجاج الوليد بالحديث تقويةُ ما ذهب إليه الأوزاعيُّ صريحا، وإِنَّما وجه الاستدلال به بطريق الأولويَّة؛ لأنَّ الذين أخَّروا الصَّلاة حَتَّى وصلوا إلى بني قُريظَة لم يعنِّفهم النَّبِيُّ صلعم مع كونهم فوَّتوا الوقت، فصلاة مَن لا يفوِّت الوقت بالإيماء أو كيف ما تمكَّن أَوْلَى مِن تأخير الصَّلاة حَتَّى يخرج وقتها، وقال الدَّاوديُّ: احتجاج الوليد بحديث بني قريظة ليس فيه حُجَّة؛ لأنَّه قبل نزول صلاة الخوف، قال: وقيل: إِنَّما صلَّى شُرَحْبِيل على ظهر الدَّابة؛ لأنَّه طمع في فتح الحِصن، فصلَّى إيماءً ثُمَّ فتحه، وقال ابن بَطَّالٍ: وأَمَّا استدلال الوليد بقصَّة بني قريظة على صلاة الطَّالب راكبًا؛ فلو وُجد في بعض طُرُق الحديث أنَّ الذين صلَّوا في الطَّريق صلَّوا رُكبانًا؛ لكان بيِّنًا، ولمَّا لم يوجد ذلك احتُمِل أن يقال: إنَّهُ يُستَدلُّ بأنَّه كما ساغ للَّذين صلَّوا في بني قريظة مع ترك الوقت، وهو فرضٌ؛ كذلك ساغ للطَّالب أن يصلِّي في الوقت راكبًا بالإيماء، ويكون تركه للرُّكوع والسُّجود كترك الوقت ويقال: لا حجَّة في حديث بني قريظة؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم إِنَّما أراد سرعة سيرهم، ولم يجعل لهم بني قريظة موضعًا للصَّلاة.
          ومذهب الفقهاء في هذا الباب: فعند أبي حنيفة: إذا كان الرَّجل مطلوبًا فلا بأسَ بصلاته سائرًا، وإن كان طالبًا فلا، وقال مالكٌ وجماعةٌ مِن أصحابه: / هما سواءٌ، كلُّ واحدٍ منهما يصلِّي على دابَّته، وقال الأوزاعيُّ والشَّافِعِيُّ في آخَرينَ كقولِ أبي حنيفة، وهو قولُ عطاء والحسن والثَّوْريِّ وأحمد وأبي ثورٍ، وعن الشَّافِعِيِّ: إن خاف الطَّالب فَوْتَ المطلوب أَوْمَأَ، وإلَّا فلا.