الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من رد أمر السفيه أوالضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام

          ░2▒ (باب مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ الْعَقْلِ) أي: باب بيان من أبطلَ تصرُّفَ السَّفيه وضعيفِ العقلِ، وظاهرهُ أنَّه يردُّ أمرَهُ حتى في البيعِ والهبةِ ونحوهما ممَّا هو من العقودِ اللَّازمةِ، وهذا مذهبُ البخاريِّ وآخرين، وأمَّا على مذهبِ غيره فقد يقال: لعلَّ هذا كان ثمَّ نُسِخَ، وإلَّا فكلٌّ من السَّفيهِ وضعيفِ العقلِ إذا لم يحجر عليهما لا يردُّ تصرفهما لصحَّتهِ، وأمَّا التدبيرُ فهو عقدٌ جائزٌ عند الشافعيِّ، فله إبطاله فتأمَّله وراجعْهُ.
          والسَّفيهُ ضدُّ: الرَّشيد، من السَّفَه _بفتحتين_ وهو الخِفَّة، وقال العينيُّ: السَّفيهُ هو الذي يعملُ بخلاف موجبِ الشَّرع ويتَّبع هواهُ ويتصرَّفُ لا لغرَضٍ أو لغرضٍ لا يعدُّه العقلاء من أهلِ الدِّيانة غرضاً، مثل: دفعِ المالِ إلى المغنى واللعابِ وشراءِ الحمَام الطَّيارة بثمنٍ غَالٍ وغيرِ ذلك، انتهى.
          وقوله: والضَّعيفُ العقل بـــ((ال)) في المضاف والمضاف إليه على حدِّ قولهم: الحسنُ الوجه، والمرادُ به ناقصُ العقل، فعطفهُ على السَّفيه من عطف العامِّ على الخاص، كذا قاله كثيرون، وفيه أنَّ كلام ((المصباح)) يفيدُ التَّرادف قال فيه: سَفِه سَفَهاً من باب تعبَ، وسُفه _بالضم_ سَفَاهةً فهو سَفِيهٌ، والأنثى: سَفِيهةٌ، والجمعُ فيهما: سُفَهاءُ، والسَّفهُ نقْصٌ في العقلِ، وأصله: الخِفَّة وسفهُ الحقِّ جهله، وسفَّهتُه تسفيهاً نسبتُهُ إلى السَّفه، أو قلتُ له: يا سفيه، انتهى.
          ولعلَّ الكثيرين نظرُوا إلى أنَّ السَّفيهَ من شأنهِ ضعفُ العقلِ فهو خاصٌّ، وضعيفُ العقلِ يصْدُقُ بالسَّفيه وغيره فهو أعمُّ، وهو في الشَّرعِ: مَن بلغَ غير صالحٍ لدينهِ ودنياهُ، فهذا عند الشافعيَّةِ والحنابلةِ لا يرتفعُ عنه حجر الصبيِّ، وأمَّا إذا بلغَ صَالحاً لهما فهو رشيدٌ يزولُ عنه ببلوغهِ حجر الصِّغر، فإن بذرَ في مالهِ بعدَ ذلك بأن صرفَهُ في غيرِ ما يجوزُ شَرْعاً ولو قليلاً فهو سفيهٌ مهمِلٌ يَصِحُّ تصرُّفه إن لم يحجرْ عليه القاضِي، وإلَّا فلا، ولذلك تتمَّةُ تفصيلٍ مذكورٍ في الفروعِ، فراجعْهُ.
          وقوله: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الإِمَامُ) قيدٌ لكلٍّ من السَّفيهِ والضَّعيفِ العقلِ، فإفرادُ الضمير باعتبار كلٍّ منهما، ومثل الإمام؛ أي: السُّلطان نائبهُ، وهذا مذهبُ ابن القاسمِ من المالكيَّةِ وقصَره أصبغُ منهم على من ظهر سفههُ، وقال غيرُهما منهم: لا يردُّ مطلقاً إلا ما تصرَّفَ فيه بعد الحجْرِ، وهو قول الشافعيَّة وغيرِهِم، كذا في ((فتح الباري)).
          لكن قال في ((عمدة القاري)): وعندَ أبي حنيفةَ لا يحجرُ بسببِ سفهٍ ولا يُرد مطلقاً، وعند أبي يوسفَ ومحمَّد: يحجرُ عليه في تصرُّفاتٍ لا تصِحُّ مع الهزلِ، كالبيعِ والهبَةِ والإجَارةِ ونحوها، ولا يحجرُ عليهِ في غيرِها كالطَّلاقِ ونحوه، وقال الشَّافعيُّ: يحجرُ عليه في الكلِّ ولا يحجرُ عليهِ عندَ أبي حنيفَةَ بسببِ غفلةٍ، وهو عاقلٌ غير مُفسدٍ، وعندهما يحجرُ عليه، انتهى فليتأمَّل.
          فإنَّ مذهبَ الشافعيِّ أنه يصحُّ طلاقُه وخُلعه وظِهَارهُ وكلُّ ما لا ضَررَ فيه على الغُرماء فلا يحجرُ عليه في ذلك.
          وقال في ((الفتح)) أخذاً من ابنِ بطَّالِ: أشارَ البُخاريُّ بأحاديثِ البابِ إلى التَّفصيلِ بينَ مَن ظهرَتْ منه الإضاعةُ فيرد تصرُّفه في الكثيرِ أو المستغرقِ وعليه تحملُ قصَّة المدبَّر، / وبينَ ما إذا كان في الشَّيءِ اليسيرِ أو جعل له شرطٌ يأمنُ به مِن إفسادِ مالهِ فلا يردُ، وعليه تحملُ قصَّة الذي كانَ يخدعُ، انتهى.
          (وَيُذْكَرُ) بالبناءِ للمجهولِ (عَنْ جَابِرٍ) أي: ابن عبد الله ☺، وثبتَ: <ابن عبد الله> في بعضِ الأصُول (عَنِ النَّبِيِّ) ولأبي ذرٍّ: <أنَّ النبيَّ> (صلعم رَدَّ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ) أي: على الذي تصدَّق بصدقةٍ معَ احتياجِهِ إليها وعدمِ صَبرهِ على الضَّراء، بل قد يتعرَّضُ لما في أيدِي النَّاسِ.
          وقوله: (قَبْلَ النَّهْيِ) متعلِّقٌ بـ((ردَّ)) (ثُمَّ نَهَاهُ) أي: عن مثلِ هذه الصَّدقة بعد ذلك؛ لأنَّه ليسَ من مقتضَى العقلِ أن يكونَ الشَّخصُ محتاجاً فيتصدَّقُ على غيرهِ فهو ضعيفُ العقلِ، وبذلك تحصلُ المطابقةُ.
          واعلمْ أنَّ مرادَ المصنِّفِ بهذا التَّعليقِ، كما استظهرهُ في ((الفتح)) أولاً، واقتصرَ عليه في المقدِّمة ما وصلهُ عبد بن حميدٍ في ((مسنده)) عن جابرٍ في قصَّة الذي أتى بمثلِ البيضَةِ من ذهَبٍ أصَابها في معدنٍ، فقال: يا رسولَ الله خُذها منِّي صَدقةً، فواللهِ مالي مالٌ غيرها، فأعرَضَ عنهُ فأعادَ، فحذفهُ بها، ثمَّ قال: ((يأتي أحدُكُم بمالهِ لا يملكُ غيرَهُ فيتصدَّقُ به، ثمَّ يقعدُ بعد ذلك يتكفَّفُ، إنَّما الصَّدقةُ عن ظهرِ غنًى)) وهو عندَ أبي داود، وصحَّحهُ ابن خُزيمةَ، انتهى.
          وزادَ في ((الفتح)) فقال: ثمَّ ظهرَ لي أنَّ البُخاريَّ إنما أرادَ قصَّة الذي دبَّر عبدَهُ فبَاعَه النَّبيُّ صلعم كما قاله عبدُ الحقِّ، وأشارَ إليه ابنُ بطَّالٍ ومَن بعدَهُ حتى جعلَه مُغلطَاي حجَّةً في الردِّ على ابنِ الصَّلاح، حيث قال: إنَّ الذي يذكرهُ البُخاريُّ بغيرِ صيغةِ الجزمِ لا يكون حاكماً بصحَّته مع أنَّ حديثَ المدبَّر صَحيحٌ عند البخاريِّ فكيفَ ذكرهُ بصيغةِ التَّمريضِ.
          قال في ((الفتح)): وإنَّما لم يجزمْ به؛ لأنَّ القدرَ الذي يحتاجُ إليه في هذِه الترجمةِ ليسَ على شرطِهِ، وهو من طريقِ أبي الزُّبير عن جابرٍ أنَّه قال: أعتقَ رجلٌ من بني عُذْرَة عبداً له عن دُبُرٍ فبلغَ ذلك رسولُ الله صلعم فقال: ((ألكَ مالٌ غيره؟)) فقال: لا، الحديثَ، وفيه ثمَّ قال: ((ابدَأْ بنفسِكَ فتصَدَّقْ عليهَا، فإنْ فضُلَ شيءٌ فلأهلِكَ)) الحديثَ، وهذه الزِّيادةُ تفرَّد بها أبو الزُّبير عن جابرٍ وليس هو من شرط البخاريِّ، والبخاريُّ إنما يجزمُ غَالباً بما كانَ على شرطِهِ.
          وقال الحافظُ العراقيُّ في ((نكتهِ على ابنِ الصَّلاح)): إنَّما أرادَ البُخاريُّ قصَّة الرَّجلِ الَّذي دخلَ والنَّبيُّ صلعم يخطُبُ فأمرَهُم فتصَدَّقوا عليهِ، فجَاءَ في الجمعَةِ الثَّانيةِ فأمرَ النَّبيُّ صلعم بالصَّدقَةِ فتصَدَّقُوا عليه فتصدَّقَ بأحدِ ثوبيهِ فردَّهُ عليه النَّبيُّ صلعم، قال: وهو حديثٌ ضَعيفٌ أخرجَه الدَّارقطنيُّ وغيرُه، انتهى.
          وتعقَّبه في ((الفتح)) فقال: لكنَّه ليسَ من حديثِ جابرٍ، وإنَّما هو مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ وليس بضَعيفٍ، بل هو إمَّا صَحيحٌ أو حسنٌ، أخرجُه أصحابُ ((السُّنن)) وصحَّحهُ الترمذيُّ وابنُ خُزيمةَ وابن حبَّان وغيرُهم، انتهى فتدبَّره.
          (وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ) أطلقهُ فشملَ القرضَ وغيره، وجملةُ: (وَلَهُ عَبْدٌ، لاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ) حاليَّة (فَأَعْتَقَهُ، لَمْ يَجُزْ) أي: لم يصحَّ (عِتْقُهُ) وعند الشَّافعيَّة والمالكيَّة والحنابلةِ: ينفذُ عتقَهُ ما لم يكنْ محجوراً عليه.
          وظاهرُه: أنَّه لا ينفُذُ عتقُهُ عندَهُ وإنْ لم يكُنْ محجُوراً عليهِ، وبذلِكَ صرَّحَ ابنُ المنيِّر وغيرُه، وهذَا التَّعليقُ كمَا في ((الفتحِ)) أخرجَهُ ابنُ وهبٍ في ((مُوطئه)) عنهُ، وأخذَ / مالكٌ ذلكَ من قصَّة المدبَّر السَّابقة.
          ووجهُ مطابقتهِ باعتبارِ أن تصرفَ من عليهِ دينٌ لغيرِهِ قبلَ قضَائهِ سَفَه فيبطُلُ عتقُهُ فهو مَرْدودٌ عليه، فتدبَّر.
           (ومَنْ بَاعَ) بالواو للأكثرِ عطفاً على ردٍّ في التَّرجمةِ، وما بينَ ذلكَ مُعْترضٌ ويحتملُ عطفهُ على: وقالَ مالكٌ، من عطفِ الجملَةِ الاسميَّة على الفعليَّة، فتدبَّر، ولأبوي ذرٍّ والوقتِ: <باب مَن باعَ>.
          (عَلَى الضَّعِيفِ) أي: ضعيفِ العقلِ (وَنَحْوِهِ) أي: وهو السَّفيه، والأولى إسقاطُ: <باب> كما في ((الفتح)) (فَدَفَعَ) بالفاء ولأبوي ذرٍّ والوقتِ: <ودفعَ> أي: من باعَ (ثَمَنَهُ) أي: البيعَ عبداً أو غيره (إِلَيْهِ) أي: إلى مالكهِ السَّفيهِ أو الضَّعيفِ العقلِ لتقدُّمِهما لا للثَّاني فقط، وإن اقتصرَ عليه الشُّرَّاح؛ لأن السَّفيهَ الغير المحجُورِ عليهِ إذا بيعَ عليه ثم دفع له الثَّمنَ وأمرَهُ بالإصْلاحِ لعلَّه يرجِعُ عن سفهِهِ، فإن لم يرجعْ منعَهُ من التصرُّف كما قالَ.
          (وَأَمَرَهُ) بفتحات، معطوفٌ على ما قبله (بِالإِصْلاَحِ) وفي بعضِ الأصُول: <بالاصطلاح> أي: في الثَّمن (وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهِ) أو بالقيامِ بشأنِ نفسِهِ، وهذا على سبيلِ الاختبَارِ لحالهِ، وهو حاصلُ ما فعله النَّبيُّ صلعم في بيع المدبرِ، وبه تحصلُ المطابقةُ.
          (فَإِنْ أَفْسَدَ بَعْدُ) أي: حصلَ منه إفسادٌ بعد ذلك، فـ((بعدُ)) مبنيٌّ على الضمِّ لحذفِ المضافِ إليه، ونيَّة معناه كقولهِ تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4] (مَنَعَهُ) جواب: ((إن)) أي: حجرَ عليه.
          وقوله: (لأَنَّ النَّبِيَّ صلعم نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ) تعليلٌ لمنعهِ، أو لجميعِ ما قبلَهُ، والنَّهيُ عن إضاعَةِ المالِ ثابتٌ في أحاديثَ كثيرة، منها ما مرَّ قريباً موصُولاً في باب ما ينهَى عن إضاعةِ المالِ.
          (وَقَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم فيما مرَّ موصُولاً ويأتي هنا وصلهُ (لِلَّذِي يُخْدَعُ) ببنائهِ للمجهول (فِي الْبَيْعِ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ) بكسر الخاءِ المعجمةِ (وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صلعم مَالَهُ) أي: مالَ الرجلِ الذي باعَ عليهِ غلامَهُ؛ لأنَّه لم يظهرْ عنده سفههُ حقيقةً، وإلَّا لم يدفعهُ له، ومرَّ قريباً توجيهُ العمومِ، فتدبَّر.