الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: لا تخيروني على موسى

          2411- وبالسندِ قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ) بفتَحات، قال: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بسكون العين؛ أي: ابنِ إبراهيمَ العَوفيِّ، روى له الجماعة (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بفتَحات (ابن َعَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي: ابنِ عوفٍ (وعبدِ الرَّحمنِ) أي: ابنِ هُرمُزَ (الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: اسْتَبَّ) بزيادةِ فوقيَّةٍ من السَّبِّ، وهو الشَّتمُ، يقال: سبَّه يسُبُّه _بضمِّ السين_ سباً فهو سابٌّ، وسابَّه يُسابُّه مُسابَّةً وسِباباً، وفاعلُ ذلك سِبٌّ _بكسر السين_ والسِّبُّ أيضاً الخِمارُ والعِمامةُ والحبلُ والوتَدُ والشُّقَّةُ الرَّقيقة، والسُّبَّةُ _بالضمِّ_ العارُ ومَنْ يُكثِرُ النَّاسُ / سبَّه، وبالكسرِ: الإصبَعُ السَّبَّابة؛ أي: تسابَّ.
          (رَجُلاَنِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هو: أبو بكرٍ الصدِّيقُ ☺، كما أخرجَه سفيانُ بنُ عُيينةَ في ((جامعه))، وابنُ أبي الدُّنيا في كتاب ((البعث))، لكن سيأتي في الباب من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ التصريحُ بأنه من الأنصارِ، أو يُرادُ بالأنصَارِ المعنى الأعمُّ، فيُحمَلُ على تعدُّدِ القصَّة (وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ) ذكر ابنُ بَشْكوالَ عن ابنِ إسحاقَ أنه فِنْحاصُ _بكسر الفاء وسكون النون وحاءٍ وصادٍ مهملتَين بينهما ألف_ لكنْ قال الحافظُ ابنُ حجَر: الذي ذكره ابنُ إسحاقَ لفِنْحاصَ مع أبي بكرٍ قصَّةٌ أخرى، وفيها نزلَ قولُه تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181].
          (فقَالَ الْمُسْلِمُ) سقطتِ الفاءُ لغيرِ أبي ذرٍّ (وَالَّذِي اصْطَفَى) أي: واللهِ الذي اختار (مُحَمَّداً عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: على الخلائقِ أجمعين (فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى) أي: ابنَ عمرانَ (عَلَى الْعَالَمِينَ) قد بيَّن سبَبَ ذلك في روايةِ عبد الله بن الفَضْل؛ وهي: بينما يهوديٌّ يعرِضُ سِلعتَه أُعطيَ بها شيئاً كَرهَه، فقال: لا والذي اصطفَى موسى على البشرِ (فَرَفَعَ المُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ) أي: عند سماعِ قولِ اليهوديِّ المذكور (فَلَطَمَ) قال في ((المصباح)): لطَمَتِ المرأةُ وجهَها لَطْماً، من باب ضرَبَ، ضربَتْه بباطِنِ كفِّها، انتهى.
          أي: فضرب المسلمُ بباطن كفِّه (وَجْهَ الْيَهُودِيِّ) أي: عقوبةً له على قولِهِ المفيدِ أنَّ موسى أفضلُ من نبيِّنا محمدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أنَّه أفضلُ منه (فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلعم، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ) أي: من إقسامِهما المذكورِ وضَرْبِ المسلمِ له (فَدَعَا النَّبِيُّ صلعم الْمُسْلِمَ) أي: أبا بكرٍ (فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ) ولعبدِ الله بنِ الفَضْل: فقال اليهوديُّ: يا أبا القاسم؛ إنَّ لي ذِمَّةً وعهداً، فما بالُ فُلانٍ لطَمَ وجهي، فقال: ((لمَ لطَمْتَ وجهَه؟)) فذكرَه، فغَضِبَ النَّبيُّ صلعم حتى رُؤيَ في وجهِه.
          (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: لاَ تُخَيِّرُونِي) بتشديد التحتية المكسورة؛ أي: لا تفضِّلوني (عَلَى مُوسَى) ومثلُه حديثُ: ((لا تخيِّروا بين الأنبياء)) وحديثُ: ((لا ينبغِي لأحدٍ أن يقولَ: أنا خيرٌ من يونُسَ بنِ مَتَّى)) ولا يُعارِضُه نحوُ حديثِ: ((أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ)) لأنَّ المرادَ لا تخيِّروني؛ أي: تخييراً يؤدِّي إلى النُّقصانِ في مقام موسى، فإنَّ ذلك كفرٌ، وكذا الحُكمُ في بقيَّة الأنبياءِ والمرسَلين، أو تخييراً يودي بكم إلى الخصُومة، أو قاله تواضعاً، أو قبلَ أن يعلَمَ أنه أفضَلُ، أو نهى عن التفضيل في نفسِ النُّبوة.
          وقال ابنُ التِّين: معنى ((لا تخيِّروا بين الأنبياء)) يعني: من غير علمٍ، وإلَّا فقد قالَ تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] قيل: وأغربَ ابنُ قُتَيبةَ، فأجابَ بأنَّه سيِّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامة؛ لأنَّه الشَّافعُ يومئذٍ، وله لواءُ الحمْدِ والحوضُ، فهذه سبعةُ أجوبةٍ، وزاد ابنُ بطَّالٍ جوابَين آخرَين فقال: ويجوزُ أن يُريدَ: لا تفضِّلوني عليه في العملِ، فلعلَّه أفضلُ عمَلاً منِّي، ولا في البلوَى والامتِحَان، فإنَّه أعظمُ مِحنةً مني، وليس ما أعطَى اللهُ نبيَّنا من السُّؤدُدِ والفضْلِ بعمَلِه، بل بتفضيلِ اللهِ تعالى.
          تنبيه: تفضيلُ بعضِ الأنبياء على بعضٍ قطعيٌّ بنصِّ القرآن، كقولهِ تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55] وقد وقع السؤالُ في الدَّرس عمَّا لو اعتقدَ مسلمٌ أنَّ نحوَ عيسى / أفضَلُ من نبيِّنا، أو من إبراهيمَ، والذي تحرَّرَ بحثاً مع بعضِ الفُضَلاءِ بأنَّه كفَرَ؛ لتكذيبِهِ القرآنَ، مع قيام الإجماعِ بأنَّ من البعضِ المفضَّلِ نبيَّنا، فتأمَّل وراجِعْه.
          (فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ) بفتح العين، من صَعِقَ بكسرِها، إذا أُغميَ عليه من الفَزَعَ، وقيل: إذا مات (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ) بضمِّ أولِه؛ لأنه من أَفاقَ الـمَزيد، وانظرْ هل يُستعمَلُ فاقَ المجرَّدُ بهذا المعنى؟ فيجوزُ يُفيقُ بفتح أوله، ولم يبيِّنْ في روايةِ الزُّهريِّ محَلَّ الإفاقةِ من أيِّ الصَّعقتَين، ووقع في روايةِ عبدِ الله بنِ الفضْلِ: ((فإنَّه يُنفَخُ في الصُّورِ فيصعَقُ مَنْ في السمواتِ، ومَنْ في الأرض إلا مَنْ شاءَ الله، ثم نُفِخَ فيه أخرى فأكونُ أولَ مَنْ بُعِثَ)).
          قال ابنُ الملقِّن: وفي لفظِ: ((فأكونُ أولَ مَنْ تنشقُّ عنه الأرض)) قال: وهو مُشكِلٌ، كما قال القرطبيُّ؛ لِما عُلِمَ من الأحاديثِ أنَّ موسى تُوفِّي، وأنه عليه السَّلامُ رآه في قبرِه، ونفخةُ الصَّعقِ إنَّما يموتُ بها مَن كانَ حيًّا في هذه الدَّار، وإنَّما يُنفَخُ في الموتى نفخةُ البعْثِ، فموسى لا يصحُّ أن يموتَ مرَّةً أخرى، ولا يصِحُّ أن يكونَ مستثنًى من نفخَةِ الصَّعقِ؛ لأنَّ الأنبياءَ أحياءٌ، ولا يصِحُّ استثناؤهُم من الموتَى.
          وقال بعضُهم: يحتمِلُ أنَّ موسى لم يمُتْ، وهو باطلٌ، ويحتمِلُ كما قال القاضِي أنَّ المرادَ بهذه الصَّعقةِ صعقةُ الفَزَعِ بعد النَّشرِ حين تنشَقُّ السَّمواتُ والأرض، ويحتمِلُ _كما قال النَّوويُّ_ أنه عليه السَّلامُ قال هذا قبلَ أن يعلَمَ أنه أولُ مَنْ تنشَقُّ عنه الأرض، انتهى.
          (فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ) اسمُ فاعلٍ من بطَشَ به، قال في ((المصباح)): بطَشَ به بطْشاً من بابِ ضَرَبَ، وبها قرأَ السَّبعةُ، وفي لغةٍ: من بابِ قَتَلَ، وقرأ بها الحسنَ البصريُّ وأبو جعفرٍ المدنيُّ، والبَطْشُ هو الأخذُ بعُنفٍ، وبطشَتِ اليدُ: إذا عَمِلَتْ، فهي باطشةٌ، انتهى.
          ومثلُه أبطشَه كما في ((القاموس)) أي: أخذ (جَانِبَ الْعَرْشِ) وفي رواية: <باطشٌ بجانبِ العَرشِ> وقال شيخُ الإسلام: أي متعلِّقٌ به بقوَّةٍ قابضٌ عليه بيدِه (فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ) وسقطَتْ همزةُ الاستفهام لأبي ذرٍّ، لكنَّها مُرادةٌ (فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي) في ذلك فضيلةٌ ظاهرةٌ له (أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ) أي: في قولِهِ تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] وهذه فضيلةٌ أيضاً.
          قال ابنُ الملقِّن: وقال الدَّاوديُّ: معنى ((أو كان ممَّنِ استثنى اللهُ))؛ أي: كان لي ثانياً في الإفاقةِ، قال: وحملَ بعضُ النَّاسِ أنَّ الصَّعْقةَ في الموقِفِ، ومَنِ استثنى الله همُ الشُّهداءُ، وهو بعيدٌ أن يصعَقَ الرُّسلُ في الموقِفِ، واللهُ أمَّنَهم فيه حيثُ قال: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ} [النمل:89] وتَبِعَه العَينيُّ: مَن استثنى اللهُ تعالى عن الصَّعْقِ جِبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ وعِزرائيلُ، وزاد كعبٌ: حمَلةَ العرش، وروى أنسٌ مرفوعاً: ((آخِرُهم موتاً جِبريلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلام)).
          وقال سعيدُ بنُ المسيَّب: {إلا مَنْ شاءَ اللهُ} الشُّهداءُ مُتقلِّدون بالسُّيوفِ حولَ العرشِ، ثمَّ قال: روَينا من طريقِ عليِّ بن معبَدٍ في كتاب ((الطَّاعة)) من حديثِ أبي هُريرةَ مرفوعاً: ((إنَّ اللهَ ╡ خلقَ الصُّورَ وأعطاهُ إسرافيل)) قلتُ: يا رسولَ الله، وما الصُّورُ؟ قال: ((عظيمٌ، والَّذي نفسِي بيدِهِ؛ إنَّ عِظَمَ دارِه كعَرْضِ السماءِ والأرضِ، فينفُخُ فيه ثلاثَ نفَخاتٍ: الأولى نفخةُ الفَزَعَ، الثانيةُ: / نفخةُ الصَّعقِ، الثَّالثةُ: نفخةُ القيام، يقولُ له في الأولى: انفُخْ نفْخةَ الفَزَعَ، ويأمرُه فيمُدُّها بطولِها)) وذكر الحديثَ بطولِهِ، وأخرجَه الطَّبريُّ أيضاً، لكنْ فيه رجلٌ مجهولٌ، ثم قال: والقولُ بأنَّ المستثنَى في الفزَعِ الشُّهداءُ، وفي الصَّعقِ جبريلُ وميكائيلُ وملَكُ الموتِ وحمَلةُ العرشِ أَولى بالصَّحيحِ، انتهى.
          ومُطابقةُ الحديثِ للتَّرجمة في قوله: ((استبَّ رجُلانِ))... إلخ، فإنَّ فيه خصُومةً بين المسلم واليهوديِّ، وفي قوله: فذهبَ اليَهوديُّ... إلخ، ففيه أنَّ النَّبيَّ صلعم أشخَصَ الرَّجلَ، وحديثُ البابِ أخرجَه المصنِّفُ أيضاً في التوحيد وفي الرِّقاق، ومسلمٌ في الفضائل، وأبو داود في السُّنَّة، والنَّسائيُّ في البعوثِ.