الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا

          2410- وبالسندِ قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) أي: هشامُ بنُ عبدِ الملك الطَّيالِسيُّ، قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) أي: ابنُ الحجَّاج (قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ) بفتح الميم والسين المهمَلةِ بينهما تحتيَّةٌ ساكنة؛ أي: الهِلاليُّ الكوفيُّ، تابعيٌّ، وعبدُ الملك يُقالُ له: الزَّرَّاد؛ بفتح الزاي وتشديد الراء فألِفٍ فدالٍ مهمَلة (أَخْبَرَنِي) بالإفراد؛ أي: قال شُعبةُ: أخبرَني عبدُ الملكِ، فهذا من تقديم الرَّاوي على الصِّيغةِ، وهو جائزٌ (قَالَ: سَمِعْتُ النَّزَّالَ) بفتح النون وتشديد الزاي (ابنَ سَبْرةَ) بفتح السين المهمَلة وسكون الموحَّدة فراءٍ فهاءِ تأنيثٍ، وسقطَ: ابنَ سَبْرةَ لغيرِ أبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ، والنَّزَّالُ هلاليٌّ أيضاً، تابعيٌّ كبير، بل ذكرَه بعضُهم في الصَّحابةِ لإدراكه، وليس له في البخاريِّ إلا هذا الحديثَ عن ابن مسعودٍ، وآخرَ في الأشرِبةِ عن عليٍّ ☺.
          (قال) أي: النزالُ (سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ) أي: ابنَ مسعود ☺ (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلاً) قال في ((المقدِّمةِ)) لم أعرِفْه، وقال في ((الفتح)): يحتملُ أن يُفسَّرَ بعمرَ ☺، انتهى، وفيه أنَّ قصَّةَ عمرَ فيها مغايَرةٌ كما ستأتي عن قريبٍ.
          وأقول: ويحتملُ أن يُفسَّرَ بأُبيِّ بنِ كعبٍ، ففي ((صحيح ابنِ حبَّان)) كما في ((التوضيح)) و((العمدة)) من حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ قال: قرأ رجلٌ آيةً وقرأتُها على غير قراءتِهِ، فقلتُ: من أقرأكَ هذِهِ؟ قال: رسولُ الله صلعم، فانطلقتُ فقلتُ: يا رسولَ الله؛ أقرأتَني آيةَ كذا وكذا؟ قال: ((نعم))، فقال الرجلُ: أقرأتَني آيةَ كذا وكذا؟ قال: ((نعم؛ إنَّ جِبريلَ وميكائيلَ أتَياني، فجلَسَ جِبريلُ عن يميني، وجلسَ مِيكَائيلُ عن يسَاري، فقال جبريلُ: يا محمَّدُ؛ اقرأِ القُرآنَ على حرفٍ، فقال / ميكائيلُ: استزِدْه، فقلتُ: زِدْني، فقال: اقرأْه على حرفَين، فقال ميكائيلُ: استزِدْه، حتَّى بلغَ سبعةَ أحرُفٍ، وقال: كلٌّ كافٍ شافٍ)) انتهى، فتأمَّل.
          (قَرَأَ آيَةً) هي من سورةِ الرَّحمن، كما في ((صحيح ابن حبَّانَ))، وفي ((الفتح)) نقلاً عن ((المبهَمات)) للخطيبِ أنَّها من سورة الأحقَافِ، وجملةُ: (سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلعم خِلاَفَهَا) أي: خِلافَ صفتِها (فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ) أي: فأمسكتُه بها (فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلعم) زاد المصنِّفُ: في بني إسرائيل: ((فأخبرتُه، فعرَفتُ في وجهِه الكراهة)).
          (فَقَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم (كِلاَكُمَا) بالخطابِ (مُحْسِنٌ) أفردَهُ مع أنه خبرُ ((كلاكما)) نظراً للفظِها، بل هو أكثرُ من التثنية مُراعاةً لمعناها، واستُشكِلَ قولُه: ((كلاكما مُحسِنٌ)) مع إظهارِهِ الكراهةَ، وأُجيبَ بأنَّ إحسَانَهما لصحَّةِ قراءتَيهما بسمَاعِهما من رسولِ الله صلعم، والكراهةُ باعتبارِ جِدالِهما كما فعلَ عُمرُ بهشامٍ كما سيأتي، فكان الواجبُ على ابنِ مسعودٍ أن يُقِرَّه على قراءتِهِ، ثم يسألَه عن وجهِها، ولا يختلفان.
          وقد يدُلُّ له قولُه: (قَالَ شُعْبَةُ) أي: ابنُ الحجَّاج بالسَّند المتقدِّم (أَظُنُّهُ قَالَ) أي: رسول الله صلعم بالسَّند أيضاً: (لاَ تَخْتَلِفُوا) أي: مُطلقاً ويحتملُ: في القرآنِ، كما يدُلُّ له السِّياقِ، وفي ((مُعجَمِ)) أبي القاسم البغَويِّ عن أبي جَهْمِ بنِ الحارث بنِ الصِّمَّةِ أنَّه صلعم قال: ((إنَّ هذا القُرآنَ أُنزِلَ على سبعةِ أحرُفٍ، فلا تُمارُوا في القرآنِ، فإنَّ الـمِراءَ فيه كفرٌ)).
          وقال الـمُظهَريُّ: الاختلافُ في القرآنِ غيرُ جائز؛ لأنَّ كلَّ لفظٍ منه إذا جاز قراءتُه على وجهَين أو أكثر فلو أنكرَ واحدٌ أحداً من ذَينِكَ الوجهَينِ أو الوجوهِ فقد أنكرَ القرآنَ، ولا يجوزُ في القرآنِ القولُ بالرأي؛ لأنَّ القرآنَ سُنَّةٌ متَّبعة، بل عليهما أن يسألا عن ذلك ممَّن هو أعلمُ منهما.
          (فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ) أي: من بني إسرائيل، ويحتمِلُ العمومَ، بل هو ظاهرُ الحديث (اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا) وسقطت: <كانَ> لأبي الوقتِ عن الكُشميهنيِّ.
          ومُطابقةُ الحديث للتَّرجمة _كما في ((الفتح))_ في قوله: فأخذتُ بيدِه... إلخ؛ فإنَّه شاملٌ للخصُومةِ والإشخاصِ الذي هو إحضارُ الغَريمِ من مَوضِعٍ إلى آخر.
          وقال العَينيُّ: المطابقة في قوله: ((لا تختلفوا))... إلخ؛ لأنَّ الاختِلافَ الذي يورِثُ الهَلاكَ هو أشدُّ الخصُومة، قال: وهو أنسبُ مما قاله بعضُهم؛ لأنَّ فيما ذكرَه احتمالَ الخصُومة، والذي ذكرتُه فيه الخصومةُ المحقَّقة، انتهى.
          وأقول: لكنْ ما ذكرَه بعضُهم مُطابِقٌ لشيئَينِ من التَّرجمة، فافهم.