الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب السلم إلى من ليس عنده أصل

          ░3▒ (باب السَّلَمِ) بفتحتين (إِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلٌ) اسمُ ((ليس)) مؤخَّراً؛ أي: بابُ جوازِ السَّلَمِ إلى مَن ليس أصلٌ للمُسلَمِ فيه مَوجوداً عنده، وأصلُ الحَبِّ: الزَّرعُ، وأصلُ الثَّمرِ: الشجرُ، وهذا موافقٌ لكلامِ ابنِ أبزى الآتي في الباب، وقيل: المرادُ بقولِه: إلى من ليس عنده أصل؛ أي: شيءٌ من جنسِ ما أسلَمَ فيه.
          تنبيه: المتبادَرُ من قولِه: ((ليس عنده أصلٌ)) عند العقد، ويحتمِلُ عند حُلولِ الأجَلِ، فتأمَّلْ.
          وربَّما يشيرُ كلامُه إلى أنَّ من العلماءِ مَن اشتَرطَ وجودَ الأصلِ عند المسلَمِ إليه، ولم أرَ اشتِراطَ ذلك، بل قال ابنُ الملقِّن: قال الكوفيُّون والثَّوريُّ والأوزاعيُّ: لا يجوزُ السَّلَمُ إلا أن يكونَ المسلَمُ فيه موجوداً في أيدي النَّاسِ من العقدِ إلى حُلولِ الأجلِ، فإنِ انقطَعَ في شيءٍ من ذلك لم يجُزْ، وهو مذهَبُ ابنِ عمرَ وابنِ عبَّاسٍ، وقال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ: يجوزُ ذلك إذا كان مأمونَ الوجودِ عند حلولِ الأجلِ في الغالبِ، انتهى ملخَّصاً.
          قال في ((الفتح)): والغرضُ من التَّرجمةِ أنَّ ذلك لا يُشترَطُ.
          قال العينيُّ عقِبَه: قلتُ: كأنَّه أشارَ إلى السَّلَمِ في المنقطعِ، فإنه لا يجوزُ عندنا.
          والسَّلَمُ أربعةُ أقسامٍ:
          الأول: أن يكونَ المسلَمُ فيه موجوداً عند العقدِ مُنقَطِعاً عند الأجلِ، فإنه لا يجوزُ.
          الثاني: أن يكونَ موجوداً وقتَ العقدِ إلى الأجلِ، فيجوزُ بلا خِلافٍ.
          الثالثُ: أن يكونَ منقطِعاً عند العَقدِ، مَوجوداً عند الأجَلِ.
          الرابعُ: أن يكونَ مَوجوداً عند العقدِ والأجلِ، لكنَّه منقطِعٌ فيما بينهما، ففي هذَين لا يجوزُ عندنا خِلافاً لمالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، قالوا: لأنَّه مقدورُ التسليمِ فيهما، قلنا: هو غيرُ مقدورِ التَّسليمِ؛ لأنَّه / يتوهَّمُ موتُ المسلَمِ إليه، فيحِلُّ الأجلُ وهو منقطِعٌ، فيتضرَّرُ ربُّ المسلمِ، فلا يجوزُ، انتهى.
          وأُجيبَ: بأنَّ النَّاسَ يدخُلونَ في العقدِ على رجاءِ السَّلامةِ، ولا يكلَّفون مُراعاةَ ما يحتمِلُ أن يحدُثَ، وحاصِلُه أنه إنَّما يجوزُ السَّلَمُ عندهم في قسمٍ من هذه الأقسامِ الأربعةِ.
          وقال في ((التوضيح)): أصلُ السَّلمِ أن يكونَ إلى مَن عنده أصلٌ مما يُسلِمُ فيه، إلا أنه لمَّا وردتِ السُّنةُ في السَّلَمِ بالصِّفةِ المعلومةِ والكيلِ والوزنِ والأجَلِ المعلومِ، وكان عامًّا فيمن عنده أصلٌ وفيمَن ليس عنده، وجماعةُ الفقهاءِ يُجيزونه إلى مَن ليس عنده أصلٌ، وحُجَّتُهم حديثُ الباب، انتهى.
          فالشرطُ عند الجمهورِ: إمكانُ وجودِه غالباً، ولو عند غيرِ المسلَمِ إليه وقتَ حُلولِ السَّلمِ، فلو أسلَمَ فيما يعُمُّ، فانقطَعَ في محلِّه، فلا ينفسِخُ السَّلمُ عند الجمهورِ، بل يتخيَّرُ المسلِمُ بين فَسخِه، فيرجِعُ برأسِ مالِه، وبين الصَّبرِ حتى يوجَدَ، وخيارُه على التراخي، وفي وجهٍ للشافعيَّة: ينفسِخُ.