الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب السلم في كيل معلوم

          ░1▒ (باب السَّلَمِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ) كذا في روايةِ المستمليِّ بتقديمِ البسمَلةِ على الكِتابِ، وتأخيرِ بابِ السَّلَمِ عنه، ووسَّطَ الكُشمِيهنيُّ البسمَلةَ، وأخَّرَها النَّسفيُّ عن البابِ، وحذفَ: <كتابُ السَّلَمِ> كذا في ((الفتح))، فتكونُ روايةُ النَّسفيِّ: <بابُ السَّلمِ في كيلٍ معلومٍ، بسم الله الرحمن الرحيم> أي: بابُ جوازِ السَّلَمِ في كيلٍ معلومٍ، فالمصدرُ بمعنى المفعولِ.
          و((السَّلَمَ)) _بفتح السين المهملة واللام والميم_؛ بمعنى: السَّلَفِ _بالفاء_، وقال الماورديُّ: السَّلَمُ: لغةُ أهلِ الحِجازِ، والسَّلَفُ: لغةُ العِراقِ، وقيل: السَّلَفُ: تقديمُ رأسِ المال، والسَّلَمُ: تسليمُه في المجلِسِ، فالسَّلَفُ أعمُّ، والسَّلَمُ شرعاً: بيعُ شيءٍ موصوفٍ في الذِّمَّةِ.
          وقال النَّوويُّ: ذكَروا في حدِّ السَّلَمِ عِباراتٍ أحسَنُها أنَّه: عقدٌ على مَوصوفٍ في الذِّمَّةِ ببدَلٍ يُعطى عاجِلاً بمجلِسِ العقدِ.
          ونظرَ فيه في ((الفتح)) بأنه ليس داخلاً في حقيقتِهِ، انتهى.
          يعني: أنَّه شَرطٌ لا رُكنٌ، وأجيبَ بأنَّ هذا رسمٌ لا حدٌّ، وسُمِّيَ سَلَماً لتسليمِ رأسِ المالِ في المجلِسِ، قال في ((الفتح)): واتفقَ العلماءُ على مشروعيَّتِه، إلا ما حُكيَ عن ابنِ المسيَّبِ، انتهى.
          وقال في ((التَّلويح)): وكرهَتْ طائفةٌ السَّلَمَ، ورُويَ عن أبي عُبيدةَ بنِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ أنه كان يكرَهُه، والأصلُ في جوازِه قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة:282] قال ابنُ عبَّاسٍ: أشهَدُ أنَّ السَّلَفَ إلى أجَلٍ قد أحلَّه الله في كتابِه، ثم تلا الآيةَ.
          ويحتمِلُ كما قال الشافعيُّ ☼ أنَّ المرادَ بالآيةِ: كلُّ دينٍ، واتفقَ العلماءُ على أنَّه يشترَطُ له ما يشترَطُ في البيعِ، وعلى تسليمِ رأسِ المالِ في المجلِسِ، قاله في ((الفتح)).
          ونُظرَ فيه بأنَّ المالكيَّةَ يجوِّزون تأخيرَه كلًّا أو بعضاً إلى ثلاثةِ أيامِ على المشهورِ، وأمَّا السَّلَمُ فيه فلا بدَّ من كَونِه ديناً، وإن كان حالًّا عند الشافعيِّ؛ لأنَّه إذا جاز مؤجَّلاً مع أنَّ فيه غَرَراً، فالحالُّ أَولى؛ لفَقدِ الغَررِ فيه، فليس ذِكرُ الأجلِ في الحديثِ لاشتراطِه لصحَّةِ السَّلَم، فلو قال: أسلَمتُ إليك ألفاً في هذا العبدِ مثَلاً، أو أسلمتُ إليك هذا العَبدَ في هذا الثوبِ، فليس بسَلَمٍ؛ لانتِفاءِ شَرطِهِ، ولا بيعاً؛ لعدَمِ لفظِهِ.
          والأجَلُ ساعةٌ فما فوقَها، وقال بعضُ الحنفيَّةِ: لا يكونُ أقلَّ من نصفِ يومٍ، وقال بعضُهم: لا يكونُ أقلَّ من ثلاثةِ أيَّامٍ، وقال المالكيَّةُ: يُكرَهُ أقلُّ من يومَين، وقال اللَّيثُ: أقلُّه خمسةَ عشَرَ يوماً، ذكَرَه ابنُ الملقِّن، وقال غيرُه: أقلُّه عند المالكيَّةِ خمسَةَ عشَرَ يوماً على المشهورِ؛ لأنَّ ذلك مظنَّةُ اختِلافِ الأسواقِ غالباً.
          وقال الطَّحاويُّ: أقلُّه ثلاثةُ أيامٍ اعتِباراً بمُدَّةِ الخِيارِ، وعن محمَّدٍ: شهرٌ، وصحَّحَه صاحبُ ((الاختيار))، ونقَلَ ابنُ الملقِّنِ عن ابنِ حَزْمٍ أنه لا يجوزُ عنده السَّلَمُ إلا في مَكيلٍ أو مَوزونٍ، لا في غيرِهما من حيَوانٍ أو مزروعٍ أو معدودٍ؛ لظاهرِ قولِه في حديثِ البابِ: ((في كَيلٍ معلومٍ، أو وزنٍ معلومٍ)).
          وقال الكرمانيُّ: وقد استدلَّ به مَن لا يرى السَّلفَ حالًّا ولا في الحيَوانِ، ولا دليلَ فيه؛ إذ ليس فيه اشتِراطُ ما ذُكرَ، بل معناه: إنِ اشتُرطَ الأجلُ أو الكيلُ أو الوزنُ فلتكُنْ معلوماتٍ، وإلا فيجوزُ حالًّا، وفي الحيوانِ والثَّيابِ / ونحوِها، انتهى ملخَّصاً.
          واعترضَه العينيُّ بالنِّسبةِ للأجل، فقال: هو قيدٌ، والقَيدُ شرطٌ، فيؤدِّي إلغاؤه إلى إلغاءِ ما قيَّدَ به الشارعُ، انتهى.
          وفيه أنَّه يرِدُ عليه أنَّ ذِكرَ الكَيلِ والوزنِ جعَلَه العينيُّ مثلَ ما جعلَه الكرمانيُّ في الأجَلِ، فليُتأمَّل.
          ويشترَطُ للسَّلَمِ شُروطٌ أخَرُ مذكورةٌ في الفروعِ، منها: أن يصِفَه بما ينضبِطُ به على وجهٍ لا يعِزُّ وجودُه، فلا يصِحُّ السَّلَمُ في المختلِطاتِ التي لا تنضبِطُ كالهرِيسةِ والمعجونِ، ولا في اللآلِئِ الكِبارِ، ولا في جاريةٍ وأختِها أو ولدِها، ولم يجوِّزْ أبو حنيفةَ السَّلَمَ في البَيضِ، وأجازه في اللَّحمِ والرُّؤوسِ والأَكارِعِ الشافعيُّ ومالكٌ، ومنعَه أبو حنيفةَ انتهى.
          وأقول: المرجَّحُ عند الشافعيَّة: عدَمُ صحَّةِ السَّلَمِ في رؤوسِ الحيَوانِ والأكارِعِ؛ لاشتمالِها على أجناسٍ مقصودةٍ لا تنضبِطُ، وكذا الذي في كُتبِ الحنفيَّةِ صحَّةُ السَّلَمِ في البَيضِ، فلعلَّ ما نقَلَه عن أبي حنيفةَ روايةٌ له.
          وقال العينيُّ: والأصلُ فيه عندنا أنَّ كلَّ شيءٍ يمكِنُ ضبطُ صفتِه ومعرِفةُ مقدارِه، جازَ السَّلَمُ فيه، [كمكيلٍ وموزونٍ ومذروعٍ] ومعدودٍ متقارِب؛ كالجَوزِ والبَيضِ، انتهى.
          ويشترَطُ بيانُ محلِّ التسليمِ إن كان لنَقلِه إليه مُؤْنةٌ، قال ابنُ الملقِّن: وليس بشَرطٍ عند مالكٍ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثورٍ.