الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: النسك شاة

          ░8▒ (بابٌ) بالتنوين (النُّسُكُ شَاةٌ) مبتدأ وخبر، يعني: النُّسُك المذكور في آيةِ الفدية المرادُ به شاة، أشارَ بالتَّرجمةِ إلى ما رواهُ الطَّبريُّ من طريق مجاهد في آخر حديثِ الباب: ((فأنزل الله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} والنُّسك شاة)).
          ورويَ من طريق محمَّدِ بن كعبٍ القرظِي عن كعب: ((أمرَني أنْ أحلِقَ وأفتدِي بشاةٍ)).
          قال عياضٌ وغيره تبعاً لابن عبد البر: كلُّ من ذكر النُّسُك في هذا الحديثِ مفسراً، فإنما ذكروا شاةً وهو أمرٌ لا خلافَ فيه بين العلماء، انتهى.
          وتعقَّبه في ((فتح الباري)) بما رواهُ أبو داود والطَّبرانيُّ من طريقِ عبد الوهاب بن بخت وسعيد بن منصورٍ وعبد بن حميد من طرقٍ تدورُ على نافع عن كعب.
          حاصلها: أنَّه أصابه أذًى فحلق، فأمرهُ أن يهدِي بقرةً أو أن يفتدي فافتدى ببقرةٍ أو ذبح بقرةً قال: لكن عارضَ تلك ما هو أصحُّ منها من أن الذي أمرَ به كعبٌ وفعله في النُّسُك إنما هو شاةٌ قال: واعتمدَ ابن بطَّال على رواية ذبح البقرة التي لم تثبتْ فقال: أخذ كعبٌ بأرفع الكفَّارات، ولم يخالفْ النَّبيُّ فيما أمرهُ به من ذبح الشَّاة قال: بل وافقَ وزاد.
          قال: ففيه أنَّ من أفتى بأيسرِ الأشياء فلهُ أن يأخذَ بأرفعها كما فعلَ كعبٌ ☺، انتهى ما قاله في ((الفتح)) ملخصاً.
          ورواهُ الواحديُّ في ((أسباب النزول)) من رواية المغيرة بن صقلابٍ قال: حدَّثنا عَمرو بن قيسٍ المكي عن عطاءٍ عن ابن عبَّاس قال: ((لما نزلنا الحديبيةَ جاءَ كعبُ بن عُجرة تنثر هوام رأسهِ على جبهتهِ فقال: يا رسولَ الله هذا القملُ قد أكلني، قال: احلِقْ وافدِ، قال: فحلق كعبٌ ونحرَ بقرةً، فأنزل الله ╡ في ذلك الموقف: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ}))، قال ابن عبَّاس: قال رسولُ الله صلعم: ((الصِّيامُ ثلاثةُ أيَّامٍ والنُّسُك شاةٌ، والصَّدقةُ الفَرَق بين ستة مساكينَ لكلِّ مسكينٍ مُدَّان))، انتهى.
          وقد ردَّه الحافظُ زين الدين العراقي فقال: هذا حديثٌ شاذٌّ منكرٌ، وعمر بن قيس هو المعروفُ بسندل منكر الحديث، ولم ينقل أن ابن عبَّاس كان في عمرةِ الحديبية.
          وقال الشَّافعيُّ: إنَّ ابن عبَّاس لم يكنْ مع النَّبي صلعم في إحرامٍ إلا في حجة الوداع، ومن المنكرِ قوله: ((فنحر بقرةً)) ففي ((الصحيح)): ((أن النَّبيَّ صلعم قال له: أتجدُ شاةً؟ قال: لا)) وأنه أمرهُ بالصَّومِ أو الإطعام، انتهى.
          واعترضهُ العيني فقال: الحديث يدلُّ على أنَّ ابن عبَّاس كان مع النَّبي صلعم في عمرة الحديبية، والشَّافعي ينفي، والمثبتُ مقدَّمٌ وأما نحرُ البقرة فقد رواه الطبري أيضاً في باب قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً}، انتهى.
          وأقول: المثبتُ منكر الحديث فلا يلتفتُ إليه لو لم يكن النَّافي الشَّافعي، وأما نحرُ البقرةِ وإن رواهُ الطَّبري فقد عارضهُ ما هو أصحُّ منه / كما علمت، على أن العينيَّ قال هنا بعد أن ذكرَ ما رواهُ الطَّبري وأبو داود وغيرهما الذي أوردهُ في ((الفتح)) ردًّا على ابن عبد البر قوله: لا خلف فيه.
          قلت: هذا كلُّهُ لا يساوي ما ثبت في ((الصحيح)) من أنَّ الذي أمرَ به كعبٌ وفعلهُ في النُّسُك إنما هو شاةٌ، وقد قال شيخنا زينُ الدين لفظ البقرة منكرٌ شاذٌّ.
          وقال ابنُ حزمٍ: إلى آخرِ ما أطال به فتأمَّله بإنصاف.