الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من تمر

          1503- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ): بفتح السين المهملة والكاف، قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ): بفتح الجيم والضاد المعجمة بينهما هاء ساكنة؛ أي: ابن عبد الله الثَّقفِي، سكنَ البصرة.
          قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ): أي: الأنصاري / (عَنْ عُمَرَ): بضم العين (ابْنِ نَافِعٍ): مات بالمدينة.
          وقال في ((الفتح)): هو مولى ابنِ عُمر ثقةٌ، ليس له في البخاريِّ سوى هذا الحديث، وآخر في النَّهي عن القزع.
          (عَنْ أَبِيهِ): أي: نافعٍ مَولى ابن عمر (عَنِ ابْنِ عُمَرَ): أي: ابن الخطَّاب (☻ قَالَ): أي: ابن عُمر (فَرَضَ): أي: أوجبَ (رَسُولُ اللَّهِ صلعم زَكَاةَ الْفِطْرِ): أي: ((من رمضان)) كما لمسلمٍ، وما فرضَه فبأمرِ الله وما ينطقُ عن الهوى.
          وقيل: إنَّ ((فَرَضَ)) بمعنى: قدرَ، وتقدَّمَ ما فيه، فالصَّحيح: وجوبها، وعليه الجمهورُ، ويدلُّ له أيضاً قوله تعالى: {وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ومن أفرادها زكاةُ الفطر وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] وثبتَ أنها نزلتْ في زكاة الفطرِ، وثبت في ((الصَّحيحين)): إثباتُ الفلاحِ لمن اقتصرَ على الواجباتِ.
          ونظرَ فيه بأن في الآية: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] فيلزم وجوب صَلاة العيد، وأجيب: بأنها خرجت بدليل عموم: ((هنَّ خمسٌ لا يُبدَّلُ القول لديَّ)) وعموم: هل عليَّ غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تَطوَّع)).
          واستدلَّ بحديث البابِ على أنَّ وقتَ وجوبها: غروبُ الشَّمس ليلةَ العيد، لكونهِ أضَافها إلى الفطر، وهو قولُ الثَّوري والشَّافعي في الجديد، وإحدى الروايتين عن مالك، وقولُ أحمد وإسحاقَ، واستدلَّ به أيضاً: على أنَّ وقتَ وجوبها: طلوعُ الفجرِ من يوم العيد؛ لأنَّ الليل ليس محلًّا للصوم، وإنما يتبيَّن الفطرُ الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر، وهو قولُ أبي حَنيفةَ والليث والشَّافعي في القديم، والرواية الثانية عن مالكٍ، ويؤيِّدُه قولهُ في حديث الباب: ((وأمَرَ بها أن تُؤدَّى قبل خُرُوج النَّاس إلى الصَّلاةِ)) ومبنى الخلاف _كما قيل_ على أنَّ قوله: ((الفطرُ في رمضَان)) الفطرُ المعتاد في سَائرِ رمضانَ فيكون الوجوبُ بالغروبِ، أو الفطرُ الطَّارئ بعده فيكون بطلوعِ الفجرِ.
          وضعَّف ابنُ دقيق العيد الاستدلالَ بهذا الحديث لكلا القولين: بأنَّ الإضافة إلى ((الفطر)) لا تدلُّ على وقتِ وجوبِ الفطرة، بل تقتضِي إضافتها إلى الفطرِ من رمضَان، وأمَّا وقت الوجُوب فيطلب من دليلٍ آخر. انتهى فليتأمَّل.
          (صَاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ): بنصب ((صاعاً)) على التَّمييز أو مفعول ثان لـ((فرض)) أو حال لتأويله بمكيلاً، وهو خمسةُ أرطالٍ وثلث بالبغدادي عند مالكٍ والشَّافعي وأحمدَ وعلماء الحجاز، وأبي يوسف، وعند أبي حنيفة ومحمد: ثمانية أرطالٍ بالبغدادي أيضاً، ورطلُ بغداد عند النووي: مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، خلافاً للرَّافعي من أنَّه مائة وثلاثون درهماً، والأصلُ الكيل، وإنما قُدِّر بالوزن استظهاراً.
          قال النَّوويُّ: والصَّوابُ ما قاله الدَّارمي أنَّ الاعتمادَ على الكيلِ بصاع معير بالصاع الذي كان يخرجُ به في عصر النَّبي عليه السلام، ومن لم يجدْه لزمهُ إخراج قدرٍ يتيقَّن أنه لا ينقصُ عنه، وقدَّره بعض العلماء بأربعِ حفنات بكفي معتدلِ الكفين.
          وكان أبو يوسُف يقولُ كقول صاحبيهِ، ثمَّ رجع لقول الجمهور لما تناظر مع مالكٍ بالمدينة لما حجَّ مع الرشيد، فأراهُ الصِّيعان التي توارثها أهلُ المدينة عن أسلافهم زمن النَّبي صلعم فإذا الصَّاع يسعُ خمسةَ أرطالٍ وثلث.
          قال في ((الفتح)): لم تختلفْ الطُّرقُ عن ابن عمر في الاقتصَارِ على هذين الشَّيئين إلا ما أخرجهُ أبو داود والنسائي وغيرهما بسندهم عن نافعٍ فزاد فيه السلت والزبيب، وسيأتي الزبيب والأقطُ في حديث أبي سعيدٍ الخدري، فليتأمَّل.
          ولعل حكمةَ تقديم التَّمر كثرتُهُ والاقتيات به عند أهل الحجاز، وإلا فالمدارُ عندنا على غالب قوت البلدِ مما يقتاتُهُ الآدميون فهو الواجبُ، ولا يجزئُ غيره إن كان أدنى، فلا يجزئ التَّمر إذا كان الغالب البرُّ أو الشعير، وإن كان ظاهرُ هذا الخبر أنَّه مخيَّرٌ بين إخراج الصَّاعِ من التمر أو الشَّعير، وأنه لا يخرجُ غيرهما، وبذلك قال ابن حزمٍ، لكنْ وردَ في رواياتٍ أخرى ذكرُ أجناسٍ أُخَر، وأنَّ المعتبرَ ما هو الغالب.
          (عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ): ظاهرهُ: أنَّ العبدَ يُخرِج عن نفسهِ، وهو قولُ داود الظَّاهري منفرداً به، ويردُّه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: ((ليسَ على المسلِم في عبدِهِ صدقَةٌ إلا صدقةُ الفطرِ)) وذلك يقتضي أنَّها ليست عليه، بل على سيِّده.
          وقال البيضاوي: وجعلَ وجوبَ زكاة الفطر على السَّيِّد كالوجوبِ على العبدِ مجازاً، إذْ ليس هو أهلاً بأن يكلَّفَ بالواجباتِ الماليَّةِ، ويؤيِّدُ ذلك عطف ((الصغير)) عليه.
          (وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى): أي: والخنثى (وَالصَّغِيرِ): أي: وإنْ كان يتيماً، خلافاً لمحمد بن الحسن وزفر، فإنهما قالا: إنَّها على الأب مطلقاً، فإنْ لم يكنْ له أبٌ فلا شيءَ عليه، وعن سعيد بن المسيَّب والحسن البصري: لا تجبُ إلا على / من صام، واستدلَّ لهما بما أخرجهُ أبو داود عن ابن عباس مرفوعاً: ((صدقَةُ الفطر طهرةٌ للصَّائِم من اللَّغوِ والرفث)) وأجيب: بأن ذكر التَّطهيرِ خرج مخرجَ الغالب.
          (وَالْكَبِيرِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ): أي: دون الكُفَّار؛ لأنها طهرةٌ، والكفارُ ليسوا من أهلها، نعم، لا زكاةَ على أربعةٍ: من لا يفضلُ عن منزله، وخادمٌ يحتاجُ إليها ويليقان به، وعن قوتهِ وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيدِ ويومه ما يخرجه فيها، وامرأةٍ غنيَّةٍ لها زوجٌ معسرٌ وهي في طاعتهِ فلا يلزمها إخراجُ فطرتها؛ بخلافِ ما إذا لم تكنْ في طاعته.
          قال في ((الفتح)): واتَّفقوا على أنَّ المسلمَ لا يُخرِج عن زوجتهِ الكافرة، وبخلافِ الأَمَة فإنَّ فطرتَها تلزمُ سيِّدها، والفرق تسليم الحرَّة نفسها بخلافِ الأمة، والمكاتب لا تجبُ فطرتهُ عليه لضعفِ ملكِهِ ولا على سيِّدهِ؛ لأنَّهُ معه كالأجنبي، وتجبُ فطرة المغصُوبِ والآبقِ على الأصحِّ، وقيل: لا، لتعطل فائدتهما على السَّيِّد، وكذا تجبُ عمَّنْ انقطع خبرهُ إذا لم تمضِ مدَّةٌ لا يعيشُ في مثلها، فإن مضتْ مدَّةٌ كذلك فلا تجبُ، وكذا لا تجبُ فطرة عبيد بيت المال، ولا العبد الموقوفُ، إذْ ليس لهما مالكٌ معيَّنٌ.
          تنبيه: في ذكره ((من المسلمين)) ردٌّ على من زعمَ أنَّ مالكاً تفرَّدَ بها عن أصحابِ نافع، وقد رواه أيضاً جماعة يعتمدُ على حفظهم: كعمر بن نافع والضَّحاك بن عثمان وكثير بن فرقد، والمعلى بن إسماعيل، ويونس بن يزيد، وابن أبي ليلى، وعبد الله بن عمر العمري، وكذا أخوه عُبيد الله _بالتَّصغير_ وأيوب السَّختياني على اختلافٍ في الأخيرين كلهم عن نافع.
          (وَأَمَرَ): بفتحات؛ أي: النَّبي عليه الصلاة والسلام (بِهَا): أي: بالفطرة (أَنْ تُؤَدَّى): بالبناء للمفعول (قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ): أي: صلاة العيدِ، وهذا هو الأفضلُ، ومن ثمَّ كان الأولى للإمام أن يتأخَّرَ بصلاة عيد الفطر؛ ليتَّسع وقت الأفضليَّةِ للفطرة، بخلاف صَلاةِ عيد الأضحَى، فالأفضلُ تقديمها؛ ليتَّسعَ وقت النَّحر للأضحية، وخالفَ في ذلك ابن حزمٍ فحرَّم تأخيرها عن ذلك الوقت.
          تنبيه: مقتضى التَّقييد بقوله: ((من المسلمين)) أنَّ زكاةَ الفطرِ لا تجبُ على الكافر، لا عن نفسه ولا عن غيره، فأما عن نفسهِ فبالاتفاق، وأما عن غيره من عبدٍ وقريب مختلف فيه.
          والأصحُ: الوجوب عند الشَّافعيَّةِ بناءً على الأصح أنَّ المؤدَّى عنه تجبُ عليه أولاً ثمَّ يتحملها المؤدِّي، وهو مرويٌّ عن أحمد، أما عكسه وهو إخراجُ المسلمِ عن قريبه وعبده الكافرين فلا تجب عند مالكٍ والشافعي وأحمد أخذاً بظاهرِ مثل حديث الباب.
          وقال أبو حنيفةَ بالوجوب، واستدلَّ له العيني بأدلَّةٍ كثيرة، منها: ما رواهُ الدَّارقطنيُّ بسنده عن ابن عُمر: أنَّه كان يُخرِج صدقة الفطر عن كلِّ حُرٍّ وعبدٍ، صغيرٍ وكبير، ذكرٍ وأنثى، كافرٍ ومسلم. الحديث، لكن في سنده عُثمان بن عبد الرحمن متروكٌ مع أنَّ الحديث موقوف.
          وأجاب القائلون بالوجُوب عن حديثِ الباب ونحوه: بأنَّ زيادة: ((من المسلمين)) مضطربةٌ، وتفرَّد بها مالك، وتقدَّم قريباً أنها رواها جماعةٌ أُخَر، وبأنَّ قوله: ((من المسلمين)) معناه: من يلزمُهُ إخراجُ الزكاة عن نفسِهِ وعن غيره، وهو لا يكونُ إلا مسلماً.
          قال في ((الفتح)): واستدلَّ بقولهِ في حديث ابن عبَّاسٍ: ((صدقَةُ الفطرَةِ طُهرَةٌ للصَّائمِ)) على أنَّها تجبُ على الفقيرِ كالغنيِّ، وقد وردَ ذلك صريحاً عند أحمد، وعند الحنفيَّةِ: لا تجبُ إلا على مَن ملك نصَاباً، واستدلَّ لهم بحديث أبي هريرة المارِّ: ((لا صدقَةَ إلا عن ظَهرِ غِنًى)) قال ابنُ بزيزة: لم يدلَّ دليلٌ على اعتبارِ النِّصَاب فيها؛ لأنَّها زكاةٌ بدنيَّةٌ لا ماليَّةٌ.
          واشترطَ الشَّافعي ومن وافقَه أن يكونَ فاضِلاً عن قوتهِ وقوتِ من تلزمهُ نفقتُه يوم العيدِ وليلته، وهو قولُ أحمد وتفصِيلُ ذلك في الفروعِ.
          وحديثُ الباب أخرجه أبو داود والنَّسائي والترمذي.