الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أن رسول الله كان يصلي إحدى عشرة ركعةً

          994- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ) الحكمُ بن نافع (قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو: ابنُ أبي حمزة (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ (الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ) أي: ابن الزُّبير، ولأبوي ذرٍّ والوقت والأصيليِّ وابن عساكر: <قال حدثني> بالإفراد <عروة> (أَنَّ عَائِشَةَ) ☻.
          (أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) هي أكثرُ الوتر عند الشافعيِّ لهذا الحديث، ولقولها: ((ما كان رسول الله يزيدُ في رمضان ولا غيرهُ على إحدى عشرة ركعةً))، فلو زاد عليها بإحرامٍ واحدٍ لم يصحَّ وتراً ولا غيره إن كان عالماً عامداً، وإلَّا وقع نفلاً مطلقاً، وأمَّا رواية الباب السابقة قريباً من أنَّه صلى ركعتين ستَّ مراتٍ، ثمَّ أوتر بركعة الدَّالة على أنَّ أكثره ثلاثة عشر، فحملها بعضهم على سنَّةِ العشاء، لكن قال في ((الفتح)): ولا يخفى بعده، وقال النَّوويُّ: هو تأويلٌ ضعيفٌ مباعد للأخبارِ، قال السبكيُّ: وأنا أقطعُ على الإيتاءِ بذلك وصحَّته؛ لكن أحبُّ الاقتصارَ على إحدى عشرة؛ لأنَّه غالب أحوال النَّبيِّ صلعم.
          وحملها بعضُهم على ركعتين مقدمة للوترِ، وسنَّةِ الوضوء.
          وأطالَ في ((الفتح)) من نقل رواياتٍ مختلفةٍ في ذلك، منها: زيادةُ ركعتين سنَّة الفجر؛ لكنَّها لا يمكن إرادتها في حديث الباب لكون الإيتار بركعةٍ بعد اثنتي عشرة ركعة، ثمَّ قال: والحاصلُ: أنَّ قصة مبيت ابن عبَّاسٍ يغلب على الظَّنِّ عدم تعدُّدها، فلهذا ينبغي الاعتناءُ بالجمع بين مختلف الرِّواياتِ فيها، ولا شكَّ أنَّ الأخذ بما اتَّفق عليه الأكثرُ والأحفظُ، أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، لا سيَّما إن زاد أو نقص، والمحقَّقُ من عدد صلاته في تلك الليلة: إحدى عشرةَ، وأمَّا رواية ثلاثة عشرة، فيحتمل أن يكون منها سنَّةُ العشاء.
          ويوافقُ ذلك رواية أبي حمزة عن ابن عبَّاسٍ الآتيةِ في صلاة اللَّيل بلفظ: ((كانت صلاةُ النَّبيِّ ثلاث عشرة)) يعني: باللَّيل، ولم يعيَّن هل سنَّةُ الفجر منها أو لا، وبيَّنها يحيى بن أبي الجزَّار عن ابن عبَّاسٍ عند النَّسائيِّ بلفظ: ((كان يُصلِّي ثمان ركعاتٍ، ويوترُ بثلاثٍ، ويصلِّي ركعتين قبل صلاة الصُّبح))، ولا يعكرُ على هذا الجمع إلَّا ظاهر سياق الباب، فيمكنُ أن يُحمل قوله: ((صلَّى ركعتين، ثمَّ ركعتين)) أي: قبل أن ينامَ ويكون منها سنَّته، وقوله: ((ثمَّ ركعتين... إلخ)) أي: بعد أن قام، وسيأتي نحو هذا الجمعِ في حديث عائشة في أبواب صلاة اللَّيل. وجمع الكرمانيُّ بين ما اختُلِف من روايات قصَّةِ ابن عبَّاس به، وفصَله عما لم يقتدِ به فيه، وبعضهم ذكر الجميع مجملاً، انتهى فتأمَّل.
          وقال العينيُّ: اعلم: أنَّ عائشة أطلقت على جميع صلاته صلعم في الليل التي كان فيها الوترُ وتراً، فجملتها: إحدى / عشرة، وهذا كان قبل أن يبدنَ، فلما بدن أوتر بسبعِ ركعات، وهاهنا أيضاً أطلقت على الجميع وتراً، وإنَّ الوتر منها ثلاث ركعاتٍ، أربعٌ قبله من النفل، وبعدهُ ركعتان، فالجميع تسع ركعاتٍ، وأمَّا تصريح عائشة في الصُّورة الأولى بقولها: ((لا يجلسُ إلَّا في الثامنة، ولا يسلِّمُ إلَّا في التَّاسعة))، وكذا تصريحها في الثَّانية بقولها: ((لم يجلِسْ إلَّا في السَّادسة والسَّابعة، ولم يسلِّم إلَّا في السَّابعة))، فهو اقتصارٌ منها على جلوس الوتر وسلامه؛ لأنَّ السَّائل إنَّما سأل عن حقيقة الوتر، ولم يسأل عن غيره، فأجابت مبينةً بما في الوتر من الجلوس على الثَّانية بدون سلامٍ، والجلوس أيضاً على الثَّالثة بسلامٍ، وهذا عين مذهب أبي حنيفة، وسكتت عن جلوس الرَّكعات التي قبلها، وعن السَّلام فيها، كما أنَّ السُّؤال لم يقعْ عنها، فجوابها قد طابق سؤال السَّائل، غير أنَّها أطلقت على الجميع وتراً في الصُّورتين لكون الوتر فيها.
          ثمَّ قال: وقد وقع الاختلاف في أعداد ركعات صلاته عليه السَّلام من سبعٍ وتسعٍ، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة إلى سبع عشرة ركعة، قدر عدد ركعات الفرض في اليوم والليلة، فإن قلت: ما تقولُ في هذا الاختلاف؟ قلت: كلُّ واحدٍ من الرُّواة مثل عائشة، وابن عبَّاس، وزيد بن خالدٍ وغيرهم أخبر بما شاهده.
          وأمَّا الاختلاف عن عائشة، فقيل: هو من الرُّواة، وقيل: هو منها، ويحتمل أنَّها أخبرت عن حالاتٍ منها ما هو الأغلبُ عن فعله، ومنها ما هو نادرٌ، ومنها ما هو اتَّفق من اتِّساع الوقت وضيقه، انتهى.
          (كَانَتْ تِلْكَ) أي: صلاة إحدى عشرة ركعةً (صَلَاتَهُ) وقوله: (تَعْنِي) أي: عائشةُ (بِاللَّيْلِ) من كلام عروة (فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ) أي: من صلاة اللَّيل (قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً، قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ) ليس المرادُ بالسَّجدة: الرَّكعة، بل حقيقتها، لقوله: ((قبل أن يرفعَ رأسه)) (وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ) أي: سُنَّة الصُّبح (قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ) أي: لأنَّه كان يحبُّ التَّيامن في شأنه، وقيل: لئلا يستغرق في النَّوم؛ لأنَّ القلب في اليسار، ففي النَّوم عليه راحةٌ له فيستغرق فيه فيسنُّ فعل هذه الضَّجعة خلافاً لمالكٍ، وكثيرين للاتِّباع، وليتذكَّر بها ضجعةَ القبر، وتقدَّم أنه يسنُّ أن يقول فيها: اللَّهمَّ ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيلَ ومحمَّدٍ صلعم، أعوذ بك من النَّار، بل تقدَّم أن بعضهم يقول بوجوبها، وأنَّها لا تصحُّ الصَّلاة بدونها.
          وقوله: (حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ) أي: بلالٌ ☺ (لِلصَّلَاةِ) أي: لصلاة الفجر، ولابن عساكر: <بالصلاة> أي: يعلِمهُ بها، فلذا عدَّاه بالباء.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): في حديث ابن عبَّاس _أي: من سائر طرقه المارَّة_ من الفوائد غير ما تقدم: جوازُ إعطاء بني هاشمٍ من الصَّدقة، وهو محمولٌ على التَّطوُّع، ويحتمل أنَّ إعطاءه العبَّاس ليتولى صرفهُ في مصالح غيره ممَّن يحلُّ له أخذ ذلك.
          وفيه: جوازُ تقاضي الوعد، وإن كان من وَعَد به مقطوعاً بوفائه.
          وفيه: الملاطفةُ بالصَّغير والقريب والضعيف، وحسن المعاشرة للأهل، والرَّدُّ على من يؤثر دوام الانقباض.
          وفيه: مبيتُ الصَّغير عند محرمه وإن كان زوجها عندها، وجوازُ الاضطجاع مع المرأة الحائض، وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصَّغيرِ وإن كان مميَّزاً، بل مراهقاً.
          وفيه: استحباب غسل الوجه واليدين / لمن أراد النَّوم وهو محدثٌ، ولعلَّه: المراد بالوضُوء للجنب.
          وفيه: دليلٌ على عدم كراهة قراءة القرآن للمحدِثِ حدثاً أصغر، وعلى غيرِ ذلك من الفوائد.