الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث ابن عمر: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح

          990- 991- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) أي: التِّنِّيسي (قَالَ: أَخْبَرَنَا) ولأبي ذرٍّ في نسخة: <حدَّثنا> (مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) كلاهما (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب (أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ) سبق في باب الحلق في المسجد أنَّ السُّؤال وقع في المسجد والنَّبيُّ على المنبر.
          والسَّائلُ: قال في ((الفتح)): لم أقفْ على اسمهِ، / وقيل: هو ابن عُمر، كما في ((المعجم الصغير)) للطَّبرانيِّ، وتعقِّب برواية عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر عند مسلمٍ: أنَّ رجلاً سألَ النبيَّ وأنا بينه وبين السَّائل، فذكر الحديث.
          وفيه: ثمَّ سأله رجلٌ على رأس الحول، وأنا بذلك المكان فما أدري أهو ذلك الرَّجل أو غيره، وقيل: من أهل الباديةِ كما عند النَّسائيِّ، وعند محمَّد بن نصرٍ في كتاب ((أحكام الوتر))، له _وهو كتابٌ نفيسٌ في مجلدة_ عن ابن عمر أنَّ أعرابيًّا سأل، وجمع باحتمال تعدُّد السَّائل.
          وقال العينيُّ: ويجوز أن ابنَ عمر عبَّر عن السَّائل تارة برجلٍ، وتارةً بأعرابيٍّ، ويجوز أنَّه السَّائلُ مع سؤال الرَّجل.
          (رَسُولَ اللَّهِ) ولأبي ذرٍّ والأصيليِّ: <النَّبي> (صلعم عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ) أي: عن عددها، أو عن الفصل والوصل، ومرَّ في باب الحلق في المسجد من رواية أيُّوب أنَّ رجلاً جاء إلى النَّبيِّ وهو يخطب، فقال: كيف صلاةُ اللَّيل؟ فقال: ((مَثنَى مثنَى، فإذا خشيت الصُّبحَ، فصَلِّ ركعةً واحدةً، واجعَل آخر صلاتك وتراً))، وعند محمَّدِ بن نصرٍ عن ابن عمر قال: قال رجلٌ يا رسول الله كيف تأمرنا أن نصلِّي من اللَّيل؟ ويتبيَّن من جوابهما أنَّ السُّؤال عن عددها، أو عن الفصل والوصل، وكذا من قوله هنا: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) بتكريره للتَّأكيدِ، وهو ممنوعٌ من الصَّرف للوصفيَّةِ والعدل.
          وقال في ((الكشاف)): لتكريرِ العدل فيه.
          قال في ((الفتح)): وأمَّا قول ابن بزيزة: إنَّ جوابه بقوله: ((مثنَى مثنى)) يدلُّ على أنَّه فهم من السَّائل طلب كيفيَّة العدد لا مطلق الكيفيَّة، ففيه نظرٌ، والأولى ما فسَّر به الحديث من الحديث فعند مسلمٍ عن عقبة بن حريث قال: قلتُ لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كلِّ ركعتين، قال: وفيه: ردٌّ على من زعمَ من الحنفيَّةِ أنَّ معنى: ((مثنى)) أن يتشهَّد بين كلِّ ركعتين؛ لأنَّ الرَّاوي أعلم بالمراد، مع أنَّه المتبادر؛ لأنَّه لا يقال في الرباعيَّةِ مثلاً: إنَّها مثنى، انتهى.
          وأجاب العينيُّ فقال: زعم هذا الحنفيُّ ما ذكر لا يستلزمُ نفي السَّلام، ومقصودُهُ: أنَّه لا بدَّ من التَّشهُّد بين كلِّ ركعتين، وأمَّا أنه يسلم، أو لا يسلم فهو بحثٌ آخر، ويجوز أن يقال في الرباعيَّةِ: مثنى مثنى بالنَّظرِ إلى أن كل ركعتين منها مثنى، مع قطع النَّظرِ عن السَّلام، انتهى.
          ولم يجبْ عنه في ((الانتقاض)).
          وأقول: وإن لم يستلزم نفي السَّلام... إلخ؛ لكن المراد: السَّلام من كلِّ ركعتين؛ لأنَّه الأفضل، وأمَّا قوله: ويجوز... إلخ، فهو بعيدٌ ككون المقصود منه أنَّه لا بدِّ من التَّشهُّد بين كلِّ ركعتين، وإن لم يسلِّم ولو كان كذلك لما استدلَّ الحنفيَّةُ بمفهومه على أنَّ الأفضل في صلاة النَّهار أن تكون أربعاً أربعاً، ووافقهم إسحاق.
          قال في ((الفتح)): وتُعقِّب: بأنَّه مفهوم لقبٍ وليس بحجَّةٍ على الراجحِ، ولئن سلَّمناه فلا نسلِّم الحصرَ في أربعٍ، وبأنَّه خرج جواباً للسُّؤال عن صلاة الليل، فقيَّد / الجواب بذلك مطابقةً للسُّؤال، وبأنَّه تبيَّن من روايةٍ أخرى أن حكم المسكوت عنه حكم المنطوق به، ففي السُّنن وصحَّحه ابن خزيمة وغيره من طريق عليٍّ الأزديِّ عن ابن عمر مرفوعاً: ((صلاةُ اللَّيلِ والنَّهارِ مَثنَى مثنى))، وردَّ الأخيرَ: بأنَّ أكثر أئمَّة الحديث أَعلُّوا زيادة: ((والنَّهار)) بأنَّ الحُفَّاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه، وبأنَّ النَّسائيَّ حكم على راويها بالخطأ فيها، وبأنَّ ابن معينٍ قال: مَن علي الأزديُّ حتى أقبل منه؟ وادَّعى يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ عن نافع: أنَّ ابنَ عمر كان يتطوَّع بالنهار أربعاً لا يفصل بينهنَّ، ولو كان حديثُ الأزديِّ صحيحاً لما خالفه ابن عمر مع شدَّة اتِّباعه.
          هذا، واحتجَّ بمنطوقهِ مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمد وأبو يوسف ومحمَّد: أنَّ صلاة اللَّيل مثنى بأن يسلِّم من كلِّ ركعتين، وأمَّا صلاة النَّهار، فالأفضلُ فيها أيضاً عند الشَّافعي: مثنى مثنى، وكذا عند غيره سوى أبي يوسف ومحمد؛ فإنَّ الأفضل عندهما: الأَربعُ في النَّهار، أخذاً بمفهوم الحديث المذكور، وأمَّا عند أبي حنيفة: فالأفضلُ: الأربعُ في اللَّيل والنَّهار؛ لكن بتشهُّدين لأحاديث، منها في الليل: ما رواهُ أبو داود عن عائشةَ أنَّها سُئِلت عن صلاة رسُول الله في جوف اللَّيل فقالت: ((كان يُصلِّي صلاةَ العشاءِ في جمَاعةٍ، ثمَّ يرجعُ إلى أهلهِ فيَركعُ أربعَ ركعَاتٍ، ثمَّ يأوي إلى فراشِهِ))، الحديث، ومنها في النهار: ما رواهُ مسلمٌ من حديث معاذةَ أنَّها سألت عائشةَ: كم كان رسولُ الله صلعم يصلِّي الضُّحى؟ قالت: ((أربعَ ركعَاتٍ، ويزيدُ ما شاء))، وبيَّنت المراد روايةُ أبي يعلى عن عائشة: ((كان رسولُ الله صلعم يُصلِّي الضُّحى أربع ركعاتٍ لا يفصلُ بينهنَّ بكلامٍ))، والاحتجاجُ لهذه المذاهِبِ وردها طويلُ الذَّيل.
          وقال في ((الفتح)): واختلف السَّلفُ في الفصل والوصْلِ في صلاة اللَّيل أيُّها أفضلُ؟ قال الأثرمُ عن أحمد: الذي اختارهُ في صلاة اللَّيل مثنَى مثنَى؛ فإن صلَّى بالنهار أربعاً فلا بأس، وقال محمَّد بن نصرٍ نحوه في صلاة اللَّيل، قال: وصحَّ عن النبي أنَّه أوتر بخمسٍ لم يجلِسْ إلا في آخرها، إلى غير ذلك من الأحاديث الدَّالَّة على الوصلِ، إلا أنا نختار أن يسلِّم من كلِّ ركعتين لكونه أجابَ به السَّائلَ، ولكون أحاديث الفصل أثبتَ وأكثر طرقاً، وفي كلامه هذا الرَّد على الدَّاوديِّ ومن تبعهُ في دعواهم أنَّه لم يثبتْ عن النَّبيِّ أنَّه صلَّى النافلة أكثر من ركعتين ركعتين، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): أيضاً، واستدلَّ به على تعيينِ الفصلِ بين كلِّ ركعتين من صلاة اللَّيل، وهو ظاهرُ السِّياق، قال ابنُ دقيق العيد: لحصر المبتدأ في الخبر _وفيه: أنَّ مثل هذا لا يفيدُ الحصرَ، فتدبَّر_ وحملهُ الجمهورُ على أنَّه لبيان الأفضلِ لما صحَّ من فعله عليه السلام بخلافه.
          والحاصلُ: أنَّه صحَّ عنه الفصلُ كما صحَّ عنه الوصلُ.
          ثمَّ قال: واستدلَّ به أيضاً على عدم النُّقصَان عن ركعتين في النَّافلة ما عدا الوتر، قال ابنُ دقيق العيد: والاستدلالُ به على ذلك _أي: كما استدلَّ به الطَّحَاوي_ أقوى من الاستدلال بامتناع قصر الصُّبح في السَّفر إلى ركعةٍ، واستدلَّ بعضُ الشَّافعيَّة للجواز بعموم ما رواه ابن حبَّان، وصحَّحهُ من قوله عليه السلام: ((الصَّلاةُ خيرُ موضُوعٍ، فمَن شاءَ استكثَرَ، ومن شاء استَقلَّ))، انتهى ملخَّصاً.
          وأقول: وما / ذكره من جواز التَّنفُّل بركعةٍ هو الصَّحيح عند الشَّافعيَّةِ فقد قال فقهاؤنا: واللَّفظُ لـ((التحفة المكية)) عند قول ((المنهاج)): ولا حصرَ للنَّفل المطلق، انتهى.
          وهو ما لا يتقيَّدُ بوقتٍ ولا سببٍ؛ للخبر الصَّحيحِ: ((الصَّلاةُ خيرُ موضوع، فاستكثِرْ منها أو أقل)) فله صلاةُ ما شاء، ولو من غير نيَّةِ عددٍ، ولو ركعة بتشهُّدٍ بلا كراهةٍ، ومثلهُ في ((نهاية المحتاج)) للرَّمليِّ.
          وحديثُ الباب _كما قال الكرمانيُّ_ يدلُّ على أنَّ الرَّكعة المفردة صلاةٌ صحيحةٌ خلافاً لأبي حنيفة.
          (فَإِذَا خَشِيَ) بكسر الشين (أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ) أي: خاف دخول وقت صلاة الصُّبح؛ أي: بطلوع الفجر.
          وقال القسطلانيُّ _تبعاً للعينيِّ وشيخ الإسلام_ أي: فوات صلاة الصُّبح، انتهى.
          وفيه نظرٌ؛ لأنَّه بطلوع الفجر يفوت أداؤه لا بخشية فوات صلاة الصُّبح حتى يفيد أنَّه لا يفوت ما دام وقت الصُّبح، فتدبَّره منصفاً، ولعلَّه مبنيٌّ على قول مالكٍ: أنَّ وقت الفجرِ وقت ضرورة، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وقيل: معنى: ((إذا خشيَ أحدُكُم الصُّبح)) أي: وهو في شفعٍ، فليتصرَّف على وتره، وهذا ينبني على أنَّ الوترَ لا يفتقرُ إلى نيَّةٍ، انتهى.
          أي: وإلا فتغيُّرُ النِّيَّة يبطل الصَّلاة، فتدبَّر.
          (صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ) أي: تلك الرَّكعة الواحدة (مَا قَدْ صَلَّى) فيه؛ أي: أن أقلَّ الوتر ركعةٌ، وأنَّها تكون مفصولةً بالتَّسليم مما قبلها، وبه قال الأئمَّة الثَّلاث خلافاً للحنفيَّةِ حيث قالوا: يوترُ بثلاثٍ كالمغرب لحديث عائشة: أنَّه صلعم كان يوتر كذلك، رواه الحاكمُ وصحَّحه.
          نعم، قال الشَّافعيَّة: لو أوتر بثلاثٍ موصولة فأكثر وتشهَّد في الآخرتين، أو في الأخيرةِ جاز للاتِّباع، رواه مسلمٌ لا أن يتشهد في غيرهما فقط، أو معهما، أو مع أحدهما؛ لأنَّه خلافُ المنقول، بخلاف النَّفل المطلق؛ لأنَّه لا حصرَ لركعاته وتشهُّداته، لكن الفصل، ولو بواحدةٍ أفضلُ من الوصل؛ لأنَّه أكثر أخباراً وعملاً، ثمَّ الوصل بتشهُّدٍ أفضلُ منه بتشهُّدين فرقاً بينه وبين المغرب، وروى الدَّارقطنيُّ بإسنادٍ رواته ثقاتٌ حديث: ((لا تُوتِروا بثلاثٍ، ولا تشبِّهُوا الوترَ بصلاةِ المغرب))، وثلاثةٌ موصولةٌ أفضل من ركعتين لزيادة العبادةِ، بل قال القاضي أبو الطَّيِّب: أنَّ الإيتار بركعةٍ مكروهٌ، انتهى.
          واعترض: بأنَّه صح أنَّه صلعم أوتر بركعةٍ، وبأنَّه قال: ((من أحَبَّ أن يُوتِر بواحدَةٍ فليفعل)).
          قال في ((التحفة)): ويجابُ: بأنَّ مراده: أنَّ الاقتصارَ عليها خلافُ الأولى لمخالفته لأكثرِ أحواله عليه السَّلام لا أنَّها في نفسها مكروهةٌ، ولا خلاف الأولى، ولا ينافيه ما في الخبر؛ لأنَّه لبيان حصول أصل السُّنَّة بها، انتهى.
          وكذا يكرهُ الإيتار بواحدةٍ على الصَّحيح عند الحنابلة، ويكرهُ عند المالكيَّةِ، وأما أكثره فسيأتي بيانهُ في الحديث الثَّالث في هذا الباب على اختلاف العلماءِ فيه.
          وقال النَّووي: قال أصحابنا: لم يقلْ أحدٌ من العلماء أنَّ الرَّكعة الواحدة لا يصحُّ الإيتار بها إلَّا أبو حنيفة، والثَّوري، ومن تابعهما.
          وردَّه العينيُّ فقال: عجباً للنَّوويِّ كيف ينقلُ هذا النقل الخطأ، ولا يردُّه مع علمه بخطئه؟ وقد ذكرنا عن جماعةٍ من الصَّحابة والتَّابعين، ومن بعدهم: أنَّ الإيتار بثلاثٍ، ولا تجزئُ الواحدة، انتهى.
          ثمَّ قال: فإن قلت: ما تقولُ في قوله صلعم: ((فإذا خشيتَ / الصُّبحَ فأوتر بركعةٍ))؟ قلت: معناهُ: متَّصلةٌ بما قبلها، ولهذا قال: ((توترُ لك ما قبلها))، ومن يقتصرُ على ركعةٍ كيف توتر ما قبلها، وليس قبلها شيءٌ؟
          وأجاب أيضاً عن حديث: ((منْ شاءَ أوتر بركعةٍ، ومنْ شاءَ أوتر بثلاثٍ أو خمسٍ)) بأنَّه محمولٌ على أنَّه كان قبل استقرارها؛ لأنَّ الصَّلوات المستقرَّةَ لا تخيير في أعدادِ ركعاتها، انتهى.
          وأقول: لا يخفَى ما فيه، وأنَّه يمكنُ الجواب عنه لمن تأمَّل.
          وقال ابنُ رجبٍ: في الاقتصار على ركعةٍ يوترُ بها قولان:
          أحدهما: أنَّه يكره، وهو قول أحمدَ في أكثر الرِّوايات عنه، فمذهبُ مالكٍ لا بدَّ أن يكون قبل ركعة الوتر شفعٌ يسلِّم بينهما حضراً وسفراً، وروى ابنُ عبد البرِّ بسندٍ فيه نظرٌ عن أبي سعيد: ((أنَّ النَّبيَّ نهى عن البُتيراء ركعةً واحدةً يوترُ بها))، انتهى ملخَّصاً.
          تنبيه: استدلَّ بحديث الباب كما في ((الفتح)) على خروجِ وقت الوتر بطُلوع الفجرِ، قال: وأصرحُ منه ما رواه أبو داود والنَّسائيُّ وصحَّحه أبو عَوانة وغيرهُ عن نافعٍ: أنَّ ابنَ عمر كان يقول: من صلَّى من اللَّيل، فليجعل آخر صلاته وتراً، فإنَّ رسولَ الله كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجرُ فقد ذهب كلُّ صلاة اللَّيل والوتر، وفي ((صحيح ابن خُزيمة)) عن أبي سعيد مرفوعاً: ((من أدركَ الصُّبحَ ولم يوترْ، فلا وترَ له)).
          قال في ((الفتح)): وهو محمولٌ على التَّعمُّد أو على أنَّه لا يقع أداءً لما رواه أبو داود من حديث أبي سعيدٍ أيضاً مرفوعاً: ((من نسيَ الوترَ أو نام عنه فليصلِّهِ إذا ذكره))، انتهى.
          وأقول: في الجواب الأوَّلِ نظرٌ إذ قضَاؤه مشروعٌ، ولو تعمَّد تركه حتى خرجَ وقتُه، ويدخلُ وقته بفعلِ فرض العشاء، ولو جمعها تقديماً.
          وقال في ((الفتح)): وحكى ابنُ المنذر عن جماعةٍ من السَّلف أنَّ الذي يخرج بالفجرِ وقته الاختياريَّ، ويبقى وقت الضَّرورة إلى قيام صلاة الصُّبح، وحكاه القرطبيُّ عن مالكٍ، والشَّافعيُّ في القديم وأحمد، لكن قال ابن قدامةَ: لا ينبغِي لأحدٍ أن يتعمَّد ترك الوتر حتى يصبحَ، انتهى.
          وفي ((شرح المهذب)): جمهورُ العلماء على أنَّ وقت الوتر يخرجُ بطلوعِ الفجر، وقيل: يمتدُّ بعد الفجرِ إلى أن يُصلِّي الفجر، وقال ابنُ بزيزة: هذا مشهورُ مذهب مالكٍ، وللشَّاذِّ من مذهبهِ: أنَّه لا يصلِّي بعد طلوعِ الفجر، قال: وبالمشهورِ من مذهبه، قال أحمد والشَّافعيُّ، ومن السَّلف: ابن مسعودٍ وابن عبَّاس وحذيفة وغيرهم، واختلفَ السَّلف في مشروعيَّة قضائه، فنفَاه الأكثر، وفي مسلمٍ وغيره عن عائشة: ((أنَّ النَّبيَّ كان إذا نام من اللَّيل من وجعٍ أو غيره، فلم يقُمْ من اللَّيلِ صلَّى من النَّهار ثنتي عشرة ركعةً))، وقال محمَّد بن نصرٍ: لم نجدْ عن النَّبيِّ في شيءٍ من الأخبار أنَّه قضى الوتر، أو أمر بقضائه، ومن زعم أنَّه عليه السَّلام في ليلة نومهم عن الصُّبح قضى الوتر فلم يصبْ، وعن عطاءٍ والأوزاعيِّ: يقضِي ولو طلعت الشَّمس، وعن سعيد بن جُبيرٍ: يقضِي من القابلة، وعن الشَّافعيَّة: يقضي مطلقاً، ويستدلُّ لهم بحديث أبي سعيدٍ المتقدِّم، انتهى.
          وأقول: ما حكاهُ عن الشَّافعيَّة أنَّه يقضي مطلقاً هو المعروف في المذهب، فإنَّ سائر النَّوافل المؤقَّتة يندبُ قضاؤها.
          تنبيهات:
          الأوَّل: قال في ((الفتح)) أيضاً: يؤخذُ من سياق هذا الحديث أنَّ ما بين طلوع الفجر، وطلوع الشَّمسِ من النَّهار شرعاً، وروى ابن دريدٍ في ((أماليه)) بسندٍ جيِّدٍ: أنَّ الخليل بن أحمد سُئِل عن حدِّ النَّهار، فقال: / من الفجر المستطير إلى بداءة الشَّفق، وحكيَ عن الشَّعبيِّ: أنَّه وقتٌ منفردٌ لا من الليل، ولا من النَّهار.
          التَّنبيه الثَّاني: استدلَّ بقوله هنا: ((صَلَّى ركعةً واحدةً توترُ له ما قد صلَّى)) على أنَّه لا صلاة بعد الوتر، ومثلهُ ما أخرجه الدَّارقطنيُّ في ((الموطآت)) عن مالكٍ بلفظ: ((فليصلِّ ركعةً))، وما أخرجهُ مسلمٌ عن ابن عمر مرفوعاً نحوه.
          قال في ((الفتح)): واختلفَ السَّلفُ في ذلك في موضعين:
          أحدهما: في مشروعيَّةِ ركعتين بعد الوتر عن جلوسٍ.
          والثاني: فيمَن أوتر، ثمَّ أراد أن يتنفَّل ليلاً، هل يكتفِي بوتره الأول، ويتنفَّلُ ما شاء، أو يشفعُ وتره بركعةٍ، ثمَّ يتنفَّل؟ ثمَّ إذا فعل هل يحتاجُ إلى وترٍ آخر أم لا؟
          فأمَّا الأول: فوقعَ عند مسلمٍ عن عائشة: ((أنَّه صلعم كان يصلِّي ركعتين بعد الوترِ، وهو جالسٌ))، وإليه ذهبَ بعضُ العلماء، وجعلوا الأمرَ في قوله: ((اجعَلوا آخرَ صَلاتكم باللَّيل وتراً)) مختصًّا بمن أوترَ آخر اللَّيل، وأجابَ من لم يقلْ بذلك: بأنَّ الرَّكعتين هما ركعتا الفجر، وحملهُ النَّوويُّ على أنَّه فعله لبيان جوازِ التَّنفُّل بعد الوتر، وجواز التَّنفُّل جالساً.
          وأما الثَّاني: فذهبَ الأكثرُ إلى أنَّه يصلِّي شفعاً ما أرادَ، ولا ينقضُ وترهُ عملاً بقوله عليه السَّلام: ((لا وتران في ليلةٍ)) حديثٌ حسنٌ، أخرجه النَّسائيُّ وابنُ خزيمة، وغيرهما من حديث طلقِ بن عليٍّ، وإنَّما يصحُّ نقضه عند من يقول بمشروعيَّة التَّنفُّل بركعةٍ واحدةٍ غير الوتر، وتقدَّم ما فيه، وروى محمَّد بن نصرٍ من طريق سعيد بن الحارث أنَّه سُئِل ابن عمر عن ذلك فقال: إذا كنت لا تخاف الصُّبحَ، ولا النَّوم فاشفَعْ، ثمَّ صلِّ ما بدا لك، ثم أوتر، وإلا فصلِّ على وترك الذي كنت أوترتَ، انتهى.
          والصَّحيحُ عند الشافعيَّةِ: أنَّه لا ينقضُ الوتر.
          التَّنبيهُ الثالث: استدلَّ بقوله عليه السَّلام: ((صلَّى ركعةً واحدةً)) على أنَّ فصلَ الوتر أفضَلُ من وصْله، وتُعقِّب: بأنَّه ليس صريحاً في الفصْل، فيحتملُ أن يريدَ بقوله: ((صلَّى ركعةً واحدةً)) أي: مضَافةً إلى ركعتين مما مضى.
          وعبارةُ ((المنهاج)) و((شرحه)) لابن حجر: ولمن زادَ على ركعةٍ الفصلُ بين كلِّ ركعتين بالسَّلام، وهو أفضلُ من الوصلِ؛ لأنَّه أكثر عملاً؛ ولأنَّ أحاديثَه أكثرُ كما في ((المجموع))، منها: الخبر المتَّفق عليه: ((كان صلعم يصلِّي فيما بين أن يفرغَ من صلاة العشَاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعةً، يسلِّم من كلِّ ركعتين، ويوتر بواحدةٍ))، والمانعُ له الموجب للوصل مخالفٌ للسُّنَّة الصَّحيحةِ، فلا يراعى خلافه، ومن ثمَّ كره بعض أصحابنا الوصل، وقال غير واحدٍ منهم: إنَّه مفسدٌ للصَّلاةِ للنَّهي الصَّحيح عن تشبيه صلاة الوتر بالمغرب، وحينئذٍ فلا يمكن وقوع الوتر متَّفقاً على صحَّته أصلاً.
          ويسنُّ لمن أوتر بثلاثٍ أن يقرأَ في الأولى: سبِّح، وفي الثانية: الكافرون، وفي الثَّالثة: الإخلاص والمعوذتين للاتِّباع، ويسنُّ أن يقول ثلاثاً بعد الوتر: سبحان الملك القدُّوس، ثمَّ اللهمَّ إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أُحصِي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك، وقضيَّةُ كلام بعضهم: أنَّه لا يحصل فضيلة الوتر إلَّا إذا صلَّى، أخيرته وهو متَّجهٌ إن أراد كمال الفضيلة لا أصلها، / انتهى ملخَّصاً.
          واحتجَّ بعض الحنفيَّةِ لما ذهبوا إليه من تعيين الوصل، والاقتصار على ثلاثٍ بأنَّ الصَّحابة أجمعوا على أنَّ الوتر بثلاثٍ موصولةٌ حسنٌ جائزٌ، واختلفوا فيما عداهُ، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه، وتركنا ما اختلفوا فيه، وتعقَّبهُ محمد بن نصرٍ المروزي بما رواهُ عن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً: ((لا تُوتِروا بثلاثٍ، تشبَّهوا بصلاة المغرب))، وصحَّحهُ الحاكم، وبما أخرجه عن عائشة وابن عبَّاسٍ من كراهيَة الوتر بثلاثٍ، وبما أخرجه النَّسائيُّ أيضاً عن سليمان بن يسارٍ: أنَّه كره الثَّلاث في الوتر، وقال: لا يشبه التَّطوعُ الفريضةَ، قال: فهذه الآثار تقدحُ في الإجماع الذي نقله، انتهى.
          وقال العينيُّ: ولأبي حنيفة أيضاً أحاديثُ صحيحةٌ ترد عليهم، منها: ما رواه النَّسائيُّ عن عائشة بإسنادٍ صحيحٍ على شرط الشَّيخين أنَّها قالت: ((كان رسولُ الله يوترُ بثلاثٍ لا يُسلِّم إلَّا في آخرهنَّ))، وذكر أحاديثَ أُخرَ.
          التَّنبيه الرَّابع: استدلَّ بقوله: ((توترُ له ما قد صلَّى)) على أنَّ الرَّكعة الأخيرة هي الوتر، وأن كلَّ ما تقدَّمها شفعٌ.
          قال في ((الفتح)): وادَّعى بعض الحنفيَّةِ أنَّ هذا إنما يشرع لمن طرقه الفجر قبل أن يوترَ، فيكتفي بواحدَةٍ لقوله: ((فإذا خشيَ أحدكم الصُّبح))، ويحتاجُ إلى دليلِ تعيُّن الثلاث.
          التَّنبيه الخامس: قال في ((الفتح)): استدلَّ به على تعيُّن الشَّفع قبل الوتر، وهو مرويٌّ عن المالكيَّةِ بناءً على أنَّ قوله: ((ما قد صلَّى)) أي: من النَّفل، وحملهُ من لا يشترط سبق الشَّفع على ما هو أعمُّ من النَّفل والفرض، وقالوا: إنَّ سبق الشَّفعِ شرطٌ في الكمَال لا في الصِّحَّة، ويؤيِّدهُ حديث أبي أيُّوب مرفوعاً: ((الوترُ حقٌّ، فمن شاء أوتر بخمسٍ، ومن شاء بثلاثٍ، ومن شاء بواحدَةٍ)) أخرجهُ أبو داود والنَّسائيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم، وصحَّ عن جماعةٍ من الصَّحابة أنَّهم أوتروا بواحدةٍ من غير تقدُّم نفلٍ قبلها، من ذلك ما سيأتي في المناقب عن معاوية أنَّه أوتر بركعةٍ، وأنَّ ابن عباس استصوبه.
          والحديثُ أخرجهُ أبو داود والنَّسائيُّ.
           (وَعَنْ نَافِعٍ) أي: مولى ابن عمر بالإسناد السَّابق، فهو موصولٌ، كما في ((الفتح))، قال: وهو في ((الموطأ)) كذلك إلا أنَّه ليس مقروناً به في سياقٍ واحدٍ، بل بين المرفوع والموقوف عدَّةُ أحاديثَ، ولهذا فصله البخاريُّ عنه، انتهى.
          وردَّهُ العينيُّ فقال: ليس كذلك، وإنَّما هو معلَّقٌ، ولو كان مسنداً لم يفرِّقه، انتهى.
          وأقول فيه: إنَّه فرقه لما ذكرهُ في ((الفتح))، وأيضاً لما ذكرهُ هو أيضاً بقوله: وإنَّما فرَّقه لأمرين:
          أحدهما: أنَّه كان سمع كلاً منهما مفترقاً عن الآخر.
          والثَّاني: أنَّه أراد الفرقَ بين الحديث والأثر، انتهى.
          وإذا كان كذلك فلا يظهرُ استناده لما ذكره في كونه معلَّقاً، فتأمَّل.
          (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب ☻ (كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ، حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ) قال في ((الفتح)) وتبعوه، ظاهرهُ: أنَّه كان يصلِّي الوتر موصولاً؛ فإن عرضَتْ له حاجةٌ فصَله، ثمَّ بنى على ما مضَى، انتهى.
          وأقول: بل ظاهرهُ: أنه كان يصلِّيهِ مفصُولاً، وحينئذٍ، فإن عُرِضَت له حاجةٌ أمر بها بعد السَّلام من الرَّكعتين فتدبَّر.
          وسلامه بين الرَّكعة والرَّكعتين، صادقٌ / بالاقتصار على ثلاثٍ، وبأن يكون سبقها غيرها حتى يصدق بأكثر الوتر، فافهم.
          قال في ((الفتح)): وفي هذا دفعٌ لقول من قال: لا يصحُّ الوتر إلَّا مفصولاً، وأصرحُ من ذلك ما رواه سعيد بن منصورٍ بإسنادٍ صحيحٍ عن بكر بن عبد الله المزنيِّ قال: صلَّى ابن عمر ركعتين، ثمَّ قال: يا غلام أرحل لنا، ثمَّ قام فأوتر بركعةٍ.
          وروى الطَّحاوي عن ابن عمر: أنَّه كان يفصل بين شفعهِ ووتره بتسليمةٍ، وأخبر أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يفعله، وإسناده قويٌّ، ولم يعتذرِ الطَّحاويُّ عنه إلَّا باحتمال أن يكون المراد بقوله: بتسليمةٍ؛ أي: التي في التَّشهُّد، ولا يخفى بعد هذا التَّأويلِ.