إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: الفطرة خمس الختان والاستحداد

          5889- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هو ابنُ عبد الله المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بن عُيينة (قَالَ الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلم ابن شهابٍ: (حَدَّثَنَا) أي: قال سفيان: حَدَّثنا الزُّهريُّ، فهو من تقديم الرَّاوي على الصِّيغة (عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (رِوَايَةً) أي: عن النَّبيِّ صلعم ، فهو كقول الرَّاوي يبلغ به النَّبيَّ صلعم فهو كنايةٌ عن الرَّفع (الفِطْرَةُ خَمْسٌ _أَوْ خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ_) بالشَّكِّ(1). قال ابن حَجر: وهو من سفيان، ورواه أحمدُ: «خمسٌ من الفطرةِ» بغير شكٍّ. وقوله: «خمس» صفةُ موصوفٍ محذوفٍ، أي: خصال خمس ثمَّ فسَّرها، أو على الإضافةِ، أي: خمسُ خصال، أو الجملة خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: الَّذي شُرِعَ لكم خمسٌ من الفطرةِ‼، أوَّلها: (الخِتَانُ) بكسر الخاء المعجمة بعدها فوقية، وهو قطعُ القلفةِ الَّتي تغطِّي الحشفة من الرَّجل، وقطعُ بعض الجلدةِ الَّتي في أعلى الفرج من المرأةِ كالنَّواة، أو كعرف الدِّيك، ويسمَّى ختان الرَّجل إعذارًا _بالعين المهملة والذال المعجمة_، وختانُ المرأة خفضًا _بالخاء والضاد المعجمتين بينهما فاء_.
          (وَ) ثانيها (الاِسْتِحْدَادُ) وهو استعمالُ الموسى في حَلْقِ العانةِ، كما وقعَ التَّصريح به في رواية النَّسائيِّ. قال النَّوويُّ: والمراد بالعانة الشَّعر الَّذي فوق ذكر الرَّجل وحواليه، وكذا الشَّعر الَّذي حوالي فرج المرأة. ونُقِلَ عن أبي العبَّاس بن سُرَيج أنَّه الشَّعر النَّابت حوالي(2) حلقة الدُّبر. قال أبو شامة: ويستحبُّ إماطةُ الشَّعر عن القبلِ والدُّبر، بل هو عن الدُّبر أولى خوفًا من أن يتعلَّق به شيءٌ(3) من الغائطِ، فلا يزيلهُ المستنجي إلَّا بالماء، ولا يتمكَّن من إزالتهِ بالاستجمار.
          (وَ) ثالثها (نَتْفُ الإِبْطِ) بكسر الهمزة وسكون الموحدة، يبدأ باليمين استحبابًا ويتأدَّى أصل السُّنَّة بالحلق لا سيَّما من يُؤلمه النَّتف. قال ابنُ دقيقِ العيد: من نظرَ إلى اللَّفظ وقفَ مع النَّتف، ومن / نظرَ إلى المعنى أجازَه بكلِّ مزيل، لكن تبيَّن أنَّ النَّتف مقصودٌ من جهة المعنى؛ لأنَّ محلَّ الرَّائحة الكريهة النَّاشئة من الوسخِ المجتمع بالعرق فيه فيتلبَّد ويهيج، فشُرِع النَّتف الَّذي يُضعفه فتخف الرَّائحة به، بخلاف الحَلْقِ فإنَّه يقوِّي الشَّعر ويُهيِّجه فتكثرُ الرَّائحة لذلك.
          (وَ) رابعها (تَقْلِيمُ الأَظْفَارِ) جمع ظُفُر _بضم الظاء والفاء وتسكن_، ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى في الباب اللَّاحق.
          (وَ) خامسها (قَصُّ الشَّارِبِ) وهو الشَّعر النَّابت على الشَّفَة، وهو عند النَّسائيِّ بلفظ «الحلق» لكنَّ أكثر الأحاديث بلفظ «القص» وعند النَّسائيِّ من طريق سعيدٍ المقبريِّ، عن أبي هريرة بلفظ: «تقصير الشَّارب» نعم، في حديث ابن عمر في الباب التَّالي: «واحْفوا الشَّوارب» [خ¦5892] وفي الباب الَّذي بعده: «انْهَكُوا الشَّوارب» [خ¦5893]، وفي مسلم: «جزُّوا الشَّوارب» وهي تدلُّ على أنَّ المطلوب المبالغة في الإزالة لأنَّ(4) الإحفاء الإزالةُ والاستقصاء، والإنهاك المبالغةُ في الإزالةِ، والجزُّ قصُّ الشَّعر إلى أن يبلغَ الجلد.
          قال في «شرح المهذَّب» وهو مذهبُ الشَّافعيَّة، وكان المزنيُّ والرَّبيع يفعلانهِ(5). قال الطَّحاويُّ: وما أظنُّهما أخذا ذلك إلَّا عنه. ونُقل عن الإمام أحمد ابن حنبل وأبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف واختاره النَّوويُّ أنَّه يقصُّه‼ حتَّى يبدو طرف الشَّفة، ولا يُحفيه من أصلهِ، ونقل ابنُ القاسم عن مالكٍ أنَّ إحفاء الشَّارب مُثْلَةٌ، وأنَّ المراد بالحديث المبالغةُ في أخذ الشَّارب حتَّى يبدو طرف الشَّفة. وقال أشهبُ: سألت مالكًا عمَّن يُحفِي شاربَهِ، فقال: أرى أنْ يُوجع ضربًا.
          وقوله: «الفطرة خمس» ظاهره الحصرُ، والحصرُ يكون حقيقيًّا ومجازيًّا، فالحقيقيُّ كقوله: العالم في البلد زيد، إذا لم يكن فيه غيره، ومن المجازي(6) «الدِّين النَّصيحة»، قاله ابنُ دقيق العيد. ودَلالة مِنْ على التَّبعيض فيه؛ أي(7) في قوله: «أو خمس من الفطرة» أظهرُ من دَلالة الرِّواية الأولى على الحصرِ، فليس الحصرُ مرادًا هنا بدَلالة حديث عائشةَ عند مسلم: «عشرٌ من الفطرة» فَذَكَر الخمسةَ الَّتي في حديث الباب إلَّا الختان، وزادَ «إعفاءَ اللِّحية، والسِّواك، والمضمضة والاستنشاق، وغسل البراجم، والاستنجاء». وعند أحمد وأبي داود وابن ماجه من حديث عمَّار بن ياسر مرفوعًا زيادة الانتضاح. وفي تفسير عبد الرَّزَّاق والطَبريِّ من طريقهِ بسندٍ صحيحٍ عن طاوس، عن ابن عبَّاس في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}[البقرة:124] ذكر العشر(8). وعند ابنِ أبي حاتمٍ من وجهٍ آخر عن ابن عبَّاس «غُسْل الجمعة». ولأبي عوانة في «مستخرجه» زيادة «الاستنثار». وهذه الخصالُ منها ما هو واجبٌ كالختان، وما هو مندوبٌ، ولا مانع من اقتران الواجبِ بغيره، كما قال(9) تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام:141] فإيتاء الحقِّ واجبٌ والأكلُ مباح.
          وهذا الحديثُ أخرجهُ مسلمٌ في «الطَّهارة»، وأبو داود والنَّسائيُّ وابن ماجه.


[1] في (د) زيادة: «من الراوي».
[2] في (د): «حول».
[3] في (د): «يعلق بشيء».
[4] في (د): «ولأن».
[5] في (ص) و(م) و(د): «يفعلونه».
[6] في (د): «المجاز».
[7] «فيه أي»: ليست في (د).
[8] في (د): «الفرق».
[9] في (م): «في قوله».