إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: اذهب فالتمس ولو خاتمًا من حديد

          5871- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) القَعْنَبيُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) أبي حَازِم _بالحاء المهملة والزاي_ سلَمة بن دينار الأعرج، القاصِّ(1) الزَّاهد (أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلًا) هو ابنُ عبد الله(2) الأنصاريُّ (يَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ) قيل: هي خولةُ بنت حكيم، وقيل: أمُّ شريك (إِلَى النَّبِيِّ صلعم فَقَالَتْ): يا رسول الله (جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي) لك، أي: أكونُ لك زوجة بلا مهرٍ (فَقَامَتْ) قيامًا أو زمنًا (طَوِيلًا) فالموصوف محذوفٌ، وهو المفعول المطلق، أو المفعول فيه (فَنَظَرَ) إليها(3) صلعم (وَصَوَّبَ) أي: خفض رأسه (فَلَمَّا طَالَ مُقَامُهَا) بضم الميم في الفرع، وقال العينيُّ: بفتحها، أي: قيامها (فَقَالَ رَجُلٌ) لم يُسمَّ: يا رسول الله (زَوِّجْنِيهَا) ولم يقل: هبنيها لأنَّ من خصائص النَّبيِّ صلعم انعقاد نكاحهِ من غير صداق حالًا ولا مآلًا لا بدخول ولا بموت، وليس المرادُ حقيقةَ الهبة إذ الحرُّ لا يملكُ نفسه وليس له فيها تصرُّفٌ ببيعٍ ولا هبةٍ، ولكونهِ من الخصائصِ عدل(4) عن لفظةِ الهبة إلى قوله: زوِّجنيها (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ) أي: إذا لم يكن(5) لأنَّه لا يُظنُّ بالصَّحابيِّ أن يسألَ في مثل هذا إلَّا بعد أن يكون علمَ بقرينةِ الحال أنَّه لا حاجةَ له صلعم بها (قَالَ) صلعم : (عِنْدَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا؟) بسكون الصاد المهملة، أي: تمهرها (قَالَ: لَا) شيءَ عندي (قَالَ) ╕ له: (انْظُرْ) شيئًا تُصْدِقها إيَّاه‼ (فَذَهَبَ) الرَّجل (ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: وَاللهِ) يا رسول الله (إِنْ(6)) أي: ما (وَجَدْتُ شَيْئًا. قَالَ) ╕ : (اذْهَبْ فَالتَمِسْ) أي: اطلبْ وحصِّل (وَلَوْ) كان الملتَمسُ (خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) فأصْدِقْها إيَّاه، أو فإنَّه حسنٌ أو جائزٌ، بحذف كان واسمها وجواب لو أيضًا. قيل: وفي ذكر الحديد دَلالةٌ على جواز التَّختُّم به. وتُعُقِّبَ بأنَّه لا يلزم من جوازِ الاتِّخاذ جواز اللُّبس، فيحتملُ أنَّه أرادَ وجوده لتنتفعَ المرأة بقيمتهِ (فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ قَالَ(7): لَا وَاللهِ(8) وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) قال الزَّركشيُّ: بنصب «خاتمًا» عطفًا على قوله: «التمسْ ولو خاتمًا» أي: ما وجدتُ شيئًا ولا خاتمًا، وتعقَّبه البدر الدَّمامينيُّ فقال: هذا كلامٌ عجيبٌ لا يحتاج ردُّه إلى إيضاحٍ، وإنَّما «خاتمًا» معطوف على منصوبٍ مقدَّر، أي: ما وجدتُ غير خاتمٍ ولا خاتمًا (وَعَلَيْهِ إِزَارٌ مَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ. فَقَالَ): يا رسولَ الله (أُصْدِقُهَا) بضم الهمزة والقاف بينهما صاد ساكنة فدال مكسورةٌ (إِزَارِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : إِزَارُكَ) رفعٌ على الابتداء، وخبره جملةُ قوله: (إِنْ لَبِسَتْهُ) أي: المرأة (لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسْتَهُ) أنت (لَمَ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ. فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ فَرَآهُ النَّبِيُّ صلعم مُوَلِّيًا فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ. قَالَ: سُورَةُ كَذَا وَكَذَا لِسُوَرٍ عَدَّدَهَا) ولأبي ذرٍّ: ”عدَّها“ بإسقاط الدال الثَّانية، وفي النَّسائيِّ وأبي داود من حديثِ عطاء، عن أبي هريرة: «البقرةُ أو(9) الَّتي تليها». وفي الدَّارقطنيِّ عن ابنِ مسعود: «البقرة وسور من المفصَّل». ولتمَّام الرَّازيِّ عن أبي أمامة(10) قال: «زوَّج النَّبيُّ صلعم رجلًا من الأنصارِ على سبعِ سور». وفي رواية أبي عَمرو بن حيوةَ عن ابن عبَّاس قال: «معي أربع سور أو خمس سور» (قَالَ) ╕ : (قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ) بفتح الميم وكافين. قال الدَّراقطنيُّ: إنَّها وهمٌ، والصَّواب: «زوَّجتكها» كما في الرِّواية الأخرى [خ¦5029] وجمع النَّوويُّ باحتمال صحَّة اللَّفظين ويكون جرى / لفظ التَّزويج أولًا ثمَّ لفظ التَّمليك ثانيًا، أي: لأنَّه ملك عصمتَها بالتَّزويج السَّابق.
          ومطابقةُ الحديثِ للتَّرجمة في قوله: «ولو خاتمًا من حديدٍ» لكن لا دَلالة فيه كما سبق، وكأنَّه لم يثبتْ عنده شيءٌ من ذلك على شرطهِ. قال النَّوويُّ: ولا يُكره لبس خاتم الرَّصاص والنُّحاس والحديدِ على الأصحِّ(11)؛ لخبر «الصَّحيحين» «التمسْ ولو خاتمًا من حديدٍ». وأمَّا حديث عبدِ الله بن بُرَيدة عن أبيه‼: أنَّ رجلًا جاء إلى النَّبيِّ صلعم وعليه خاتمٌ من شَبَهٍ، فقال: «ما لي أجدُ منك ريحَ الأصنامِ» فطرحَهُ، ثمَّ جاء وعليه خاتمٌ من حديد، فقال: «ما لي أرى عليك حِلْية أهل النَّار» فطرحَه. الحديث. ففي سندهِ أبو طَيبة _بالمهملة المفتوحة والموحدة_ تَكَلَّم فيه وضعَّفه النَّوويُّ في «شرحي المهذب ومسلم» وفي «كتاب الأحجار» للشَّاشيِّ(12): خاتم الفولاذُ مطردةٌ للشَّيطان إذا لُوي عليه فضَّة.
          وحديثُ الباب(13) سبق في «النِّكاح» [خ¦5087] والله الموفِّق.


[1] في (ب): «القاضي».
[2] في (م): «ابن حميد».
[3] في (م): «النبي».
[4] في (م): «عدل به».
[5] «يكن»: ليست في (س).
[6] في (م): «أني».
[7] في (ص) و(م): «فقال».
[8] «لا والله»: ليست في (ص).
[9] في (د) و(م): «و».
[10] في (ص): «لبابة».
[11] في (د): «على الأرجح».
[12] في (م): «للنقاشي». وفي فتح الباري كشف الظنون والأعلام «التيفاشي».
[13] في (د): «وهذا الباب».