إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أما بعد فما بال رجال منكم يشترطون شروطًا

          2563- وبه قال: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) بضمِّ العين مُصغَّرًا، من غير إضافةٍ، الهَبَّاريُّ _بفتح الهاء والمُوحَّدة المُشدَّدة_ القرشيُّ قال: (حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ) حمَّاد بن أسامة (عَنْ هِشَامٍ) ولأبي ذرٍّ: ”عن هشام بن عروة“ (عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزُّبير بن العوَّام (عَنْ عَائِشَةَ ♦ ) أنَّها (قَالَتْ: جَاءَتْ بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ) وفي نسخةٍ في «اليونينيَّة»: ”أوقيَّةٍ“ (فِي كُلِّ عَامٍ وَقِيَّةٌ) ولأبي ذرٍّ: ”أوقيَّةٌ“ بزيادة همزةٍ مضمومةٍ قبل الواو، وهي أربعون درهمًا (فَأَعِينِينِي) بصيغة الأمر للمُؤنَّث، من الإعانة، أي: على مال كتابتي، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيْهَنِيِّ: ”فأعيتني“ بصيغة الخبر الماضي، من الإعياء، أي: أعجزتني الأواقيُّ عن تحصيلها (فَقَالَتْ عَائِشَةُ) لبريرة: (إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا) أي: الأواقي (لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَأُعْتِقَكِ) نُصِب عطفًا على «أنْ أعدَّها» (فَعَلْتُ، وَيَكُونَ) بالنَّصب أيضًا، ولأبي ذرٍّ: ”فيكون“ بالفاء(1) (وَلَاؤُكِ لِي، فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهَا) فجاءت إلى عائشة (فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا(2) إِلَّا أَنْ يَكُونَ الوَلَاءُ لَهُمْ) أي: إلَّا بأن، فحذف منه حرف الجرِّ، أي:إلَّا بشرط ذلك، والاستثناء مُفرَّغٌ؛ لأنَّ في «أبى» معنى النَّفي، قال الزَّمخشريُّ في قوله تعالى: {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}[التوبة:32] قد أجرى «أبى» مجرى «لم يُرِد»، ألا ترى كيف قُوبِل {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ}[التوبة:32] بقوله: {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}[التوبة:32]. فقوله(3): {وَيَأْبَى اللّهُ} واقعٌ(4) موقع «لم يُرِدْ»، قالت عائشة: (فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلعم ، فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: خُذِيهَا) اشتريها (فَأَعْتِقِيهَا) بهمزة قطعٍ (وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ / أَعْتَقَ) ولأبي ذرٍّ: ”فإنَّ الولاء“ ، واستُشكِل قوله: «واشترطي لهم الولاء» لأنَّه يفسد البيع، ومتضمِّنٌ للخداع والتَّغرير، وكيف أذن لأهله بما لا يصحُّ، ومن ثمَّ أنكر يحيى بن أكثم فيما رواه الخطَّابيُّ عنه ذلك، وعن الشَّافعيِّ في «الأمِّ»: الإشارة إلى تضعيف رواية هشامٍ المصرِّحة بالاشتراط لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه، وقال في «المعرفة» فيما قرأته فيها: حديث يحيى عن عمرة عن عائشة أثبتُ من حديث هشامٍ، وأحسبه غلط في قوله: «واشترطي لهم الولاء»، وأحسب حديث عمرة: أنَّ عائشة شرطت لهم الولاء، بغير أمر النَّبيِّ صلعم ، وهي ترى ذلك يجوز، فأعلمها رسول الله صلعم أنَّها إن أعتقتها فالولاء لها، وقال [خ¦2562]: «لا يمنعك عنها ما تقدَّم من شرطك»، ولا أرى أنَّه(5) أمرها أن تشترط لهم ما لا يجوز، ثمَّ قال بعد سياقه لحديث نافعٍ عن ابن عمر السَّابق في الباب الذي قبل هذا [خ¦2562] ولعلَّ هشامًا أو عروة حين سمع أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «لا يمنعك ذلك» رأى أنَّه أمرها أن تشترط لهم الولاء، فلم يقف من حفظه على ما وقف عليه ابن عمر انتهى. وقد أثبت روايةَ هشامٍ جماعةٌ وقالوا: هشامٌ ثقةٌ حافظٌ، والحديث مُتَّفَقٌ على صحَّته، فلا وجه لردِّه، واختلفوا في تأويلها فقيل: «لهم» بمعنى «عليهم» كقوله تعالى: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ}[الرعد:25] أي: عليهم، وهذا رواه البيهقيُّ في «المعرفة» من طريق أبي حاتمٍ الرَّازي عن حرملة عن الشَّافعيِّ، وقال النَّوويُّ: تأويل اللَّام بمعنى «على» هنا ضعيفٌ؛ لأنَّه ╕ أنكر الاشتراط، ولو كانت بمعنى «على» لم ينكره، وقيل: الأمر هنا للإباحة، وهو على جهة التَّنبيه على أنَّ ذلك لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواءٌ، فكأنَّه يقول: اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا يفيدهم، وقال النَّوويُّ: أقوى الأجوبة: أنَّ هذا الحكم خاصٌّ بعائشة في هذه القضيَّة، وتعقَّبه ابن دقيق العيد: بأنَّ التَّخصيص لا يثبت إلَّا بدليلٍ، وبأنَّ الشَّافعيَّ نصَّ على خلاف هذه المقالة، ويأتي مزيدٌ لذلك إن شاء الله تعالى في «الشُّروط» [خ¦2729].
          (قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي النَّاسِ) خطيبًا (فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَا) بالفاء في «اليونينيَّة» (بَالُ) أي: ما حالُ (رِجَالٍ مِنْكُمْ(6) يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ؟ فَأَيُّمَا شَرْطٍ لَيْسَ) ولأبي ذرٍّ: ”كان ليس“ (فِي كِتَابِ اللهِ) أي: في حكمه من كتابٍ أو سنَّةٍ أو إجماعٍ (فَهْوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ) قال القرطبيُّ: خرج مخرج التَّكثير، يعني أنَّ الشُّروطَ غير المشروعة باطلةٌ ولو كَثُرَتْ (فَقَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ) أي: بالاتِّباع من الشُّروط المخالفة له (وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ) باتِّباع حدوده التي حدَّها، وليست «المفاعلة» هنا على حقيقتها، إذ لا مشاركة بين الحقِّ والباطل (مَا) بغير فاءٍ في «اليونينيَّة» (بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَعْتِقْ يَا فُلَانُ وَلِيَ الوَلَاءُ؟ إِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) ويُستفاد من التَّعبير بـ «إنَّما» إثبات الحكم للمذكور ونفيه عمَّا عداه، فلا ولاء لمن أسلم على يديه رجلٌ، وفيه: جواز سعي المكاتب وسؤاله واكتسابه وتمكين السَّيِّد له من ذلك، لكنَّ محلَّ الجواز إذا عُرِفت جهة حِلِّ كسبه، وأنَّ للمُكاتَب أن يَسْأَلَ من حين الكتابة، ولا يُشترَط في ذلك عجزه(7) خلافًا لمن شرطه، وأنَّه لا بأس بتعجيل مال الكتابة إلى غير ذلك ممَّا سيأتي إن شاء الله تعالى في محالِّه.


[1] «بالفاء»: ليس في (د1) و(ص).
[2] في (ص): «قالوا»، وهو تحريفٌ.
[3] في (د1) و(ص): «بقوله»، ولعلَّه تحريفٌ.
[4] في (د1) و(ص): «وأوقعه».
[5] (أنَّه»: ليس في (د1) و(ص).
[6] «منكم»: سقط من (س).
[7] في (ص): «عجز».