إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز

          7118- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) الحكم بن نافعٍ قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) بضمِّ الشِّين المعجمة، ابن أبي حمزة (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد / بن مسلمٍ أنَّه قال: (قَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ) المخزوميُّ، أحد الأعلام الأثبات الفقهاء الكبار: (أَخْبَرَنِي) بالإفراد (أَبُو هُرَيْرَةَ) ☺ : (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ) أي: تتفجَّر من أرض الحجاز (تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى) بضمِّ الموحَّدة وفتح الرَّاء مقصورًا، ونصب «أعناقَ» مفعول «تضيء» على أنَّه متعدٍّ(1)، والفاعل «النَّار» أي: تجعل على أعناق الإبل ضوءًا، «وبصرى»: مدينةٌ معروفةٌ بالشَّام، وهي مدينة حوران، بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل، وفي «كامل ابن عديٍّ» من طريق عمر بن سعيدٍ التَّنوخيِّ عن ابن شهابٍ عن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزمٍ عن أبيه عن عمر بن الخطَّاب رفعه: «لا تقوم السَّاعة حتَّى يسيل وادٍ من أودية الحجاز بالنَّار تُضيء له أعناق الإبل ببصرى»، قال في «الفتح»: «وعمر» ذكره ابن حِبَّان في «الثِّقات» وليَّنه ابن عديٍّ والدَّارقطنيُّ، وهذا ينطبق على النَّار المذكورة التي ظهرت بالمدينة في المئة السَّابعة(2)، وتقدَّمتها(3) _كما قال القطب القسطلانيُّ ☼ في كتابه: «جمل(4) الإيجاز في الإعجاز بنار الحجاز»_ زلزلةٌ اضطرب النَّاقلون في تحقيق اليوم الذي ابتدأت فيه، فالأكثرون(5) أنَّ ابتداءها كان يوم الأحد مُستَهَلَّ جمادى الآخرة من سنة أربعٍ وخمسين وستِّ مئةٍ، وقيل: ابتدأت ثالث الشَّهر، وجُمِعَ بأنَّ القائل بالأوَّل قال: كانت خفيفةً إلى ليلة الثُّلاثاء بيومها، ثمَّ ظهرت ظهورًا اشترك فيه الخاصُّ والعامُّ، واشتدَّت حركتها، وعظمت رجفتها، وارتَّجتِ الأرض بمَن عليها، وعجَّت الأصوات لباريها، تتوَّسل أن ينظر إليها، ودامت حركةً بعد حركة، حتَّى أيقن أهل المدينة بالهلكة، وزُلزِلوا زلزالًا شديدًا، فلمَّا كان يوم الجمعة في(6) نصف النَّهار؛ ثار في الجوِّ دخانٌ متراكم، أمره متفاقمٌ، ثمَّ شاع شعاع النَّار، وعلا حتَّى غشَّى الأبصار، وقال القرطبيُّ في «تذكرته»: كان بدؤها زلزلةً عظيمةً ليلة الأربعاء‼ ثالث جُمادى الآخرة سنة أربعٍ وخمسين وستِّ مئةٍ إلى ضحى النَّهار يوم الجمعة، فسكنت(7) بقريظة عند قاع التَّنعيم بطرف الحرَّة تُرَى(8) في صورة البلد العظيم، عليها سورٌ محيطٌ بها، عليه شراريف كشراريف الحصون، وأبراجٌ ومآذن، ويُرَى رجالٌ يقودونها، لا تمرُّ على جبلٍ إلَّا دكَّته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك نهرٌ أحمر، ونهرٌ أزرق، له دويٌّ كدويِّ الرَّعد يأخذ الصُّخور والجبال بين يديه، وينتهي إلى محطِّ الرَّكب العراقيِّ، فاجتمع من ذلك ردمٌ صار كالجبل العظيم، وانتهتِ النَّار إلى قرب المدينة، وكان يأتي المدينة ببركة النَّبيِّ صلعم نسيمٌ باردٌ، ويُشاهد من هذه النَّار غليانٌ كغليان البحر، وانتهت إلى قريةٍ من قرى اليمن فأحرقتها، وقال لي(9) بعض أصحابنا: لقد رأيتها صاعدةً في الهواء من نحو خمسة أيَّامٍ من المدينة، وسمعت أنَّها رُئيَتْ(10) من مكَّة ومن جبال بصرى. وقال أبو شامة: وردت كتبٌ من المدينة؛ في بعضها أنَّه ظهر نارٌ بالمدينة انفجرت من الأرض، وسال منها وادٍ من نارٍ حتَّى حاذى جبل أُحُدٍ، وفي(11) أُخَر سَال منها وادٍ يكون(12) مقداره أربعة(13) فراسخ، وعرضه أربعة أميالٍ، يجري على وجه الأرض، يخرج منه(14) مهادٌ وجبالٌ صغارٌ، وقال في «جمل الإيجاز»: وحكى لي جمعٌ ممَّن حضر: أنَّ النُّفوس سكرت من حلول الوجل، وفنيت(15) من ارتقاب نزول الأجل، وعجَّ المجاورون في الجؤار بالاستغفار، وعزموا على الإقلاع عن الإصرار، والتَّوبة عمَّا اجترحوا من الأوزار، وفزعوا إلى الصَّدقة بالأموال، فصُرِفَت عنهم النَّار ذات اليمين وذات الشِّمال، وظهر حسن بركة نبيِّنا صلعم في أمَّته، ويُمْن طلعته في رفقته بعد فرقته؛ فقد ظهر أنَّ النَّار المذكورة في حديث الباب هي النَّار التي ظهرت بنواحي المدينة؛ كما فهمه القرطبيُّ وغيره، ويبقى النَّظر؛ هل هي من داخلٍ كالتنفُّس أو من خارجٍ؛ كصاعقةٍ نزلت؟ والظَّاهر الأوَّل، ولعلَّ التَّنفُّس حصل من الأرض لمَّا تزلزلت، وتزايلت عن مركزها الأوَّل وتخلخلت(16)، وقد تضمَّن الحديث في ذكر النَّار ثلاثة أمورٍ: خروجها من الحجاز، وسيلان وادٍ منه بالنَّار، وقد وُجِدَا(17)، وأمَّا الثَّالث _وهو إضاءة أعناق الإبل ببصرى_ فقد جاء من أخبر به، فإذا ثبت هذا؛ فقد صحَّتِ الأمارات، وتمَّت العلامات(18)، وإن لم يثبت؛ فتحمل إضاءة أعناق الإبل ببصرى على وجه المبالغة، وذلك في لغة العرب سائغٌ، وفي باب التَّشبيه في البلاغة بالغٌ، وللعرب في التَّصرُّف في المجاز ما يقضي(19) للغتها بالسَّبق في الإعجاز / ، وعلى هذا يكون القصد بذلك التَّعظيم لشأنها، والتَّفخيم لمكانها، والتَّحذير من فورانها‼ وغليانها، وقد وُجِدَ ذلك على وفق ما أخبر، وقد جاء من أخبر أنَّه أبصرها من تيماء وبصرى على مثل ما هي من المدينة في البعد، فتعيَّن أنَّها المراد، وارتفع الشَّكُّ والعناد، وأمَّا النَّار التي تحشر النَّاس؛ فنارٌ أخرى.
          وحديث الباب من أفراده.


[1] في (ع): «يتعدَّى».
[2] في (د): «السَّابقة».
[3] في (ع): «ومقدِّمتها».
[4] في (د): «مجمل»، وهو تحريفٌ، وكذا في الموضع اللاحق.
[5] في (د): «فالأكثر».
[6] «في»: ليس في (د) و(ص) و(ع).
[7] زيد في (د): «وظهرت النَّار».
[8] في (د): «على».
[9] «لي»: ليس في (ص) و(ع).
[10] في غير (ب) و(د) و(س): «أُرِيَتْ».
[11] زيد في (ع): «جبلٍ»، والمراد: الكُثب.
[12] «يكون»: ليس في (ب) و(س).
[13] في (د): «أربع»، وفي (ع): «خمسة».
[14] في غير (ص): «منها»، وسقط من (ع).
[15] في (د): «وفتِّتَتْ».
[16] في (ع): «تحلحلت».
[17] في (د): «وُجِدَ».
[18] «وتمت العلامات»: سقط من (ع).
[19] في (ع): «يقتضي».