إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب الفتنة التي تموج كموج البحر

          ░17▒ (باب: الفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ / البَحْرِ).
          (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان؛ ممَّا وصله البخاريُّ في «تاريخه الصَّغير» عن عبد الله بن محمَّد المسنَديِّ: حدَّثنا سفيان بن عيينة (عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ) بفتح المهملة والمعجمة بينهما واوٌ ساكنةٌ، آخره موحَّدةٌ بوزن جعفرٍ، أدرك خلفٌ بعض الصَّحابة، ولم تُعْلَم له روايةٌ عن أحدٍ منهم، وهو من أهل الكوفة، ووثَّقه العجليُّ، وليس له في «البخاريِّ» إلَّا هذا الموضع: (كَانُوا) أي: السَّلف (يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا‼ بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ عِنْدَ) نزول (الفِتَنِ، قَالَ امْرُؤُ القَيْسِ) بن عابسٍ(1) الكنديُّ، كان في زمن النَّبيِّ صلعم ؛ كذا في رواية أبي ذرٍّ: ”قال امرؤ القيس“، والمحفوظ أنَّ الأبيات المذكورة لعَمرو بن معديكرب، بفتح عين «عَمرٍو»، وجزم به أبو العبَّاس المبرِّدُ في «الكامل»، والسُّهيليُّ في «روضه»، والأبيات هي:
          (الحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ) «الحرب»: مؤنَّثة، قال الخليل: تصغيرها حُرَيبٌ؛ بلا هاءٍ، قال المازنيُّ: لأنَّه في الأصل مصدرٌ، وقال المبرِّد: قد يُذكَّر الحرب(2) (فَتِيَّةً) بفتح الفاء وكسر الفوقيَّة وفتح التَّحتيَّة مشدَّدةً، قال في «المصابيح»: ويروى: ”فُتيَّةً“ بضمِّ الفاء مصغَّرًا، أي: شابَّةً، ويجوز فيه أربعة أوجهٍ:
          الأوَّل: رفع «أوَّل»، ونصب «فتيَّةً»(3)، وهو الذي في الفرع؛ مثل: زيدٌ أخطب ما يكون يوم الجمعة(4)، فـ «الحرب»: مبتدأٌ أوَّل، وقوله: «أوَّل ما تكون» مبتدأٌ ثانٍ، و«فتيَّةً» حالٌ سادَّةٌ مسدَّ الخبر(5)، والجملة المركَّبة من المبتدأ الثَّاني وخبره خبرٌ عن المبتدأ الأوَّل؛ والمعنى: الحرب أوَّل أكوانها(6) إذا كانت فتيَّةً.
          الثَّاني: نصب «أوَّل» ورفع «فتيَّةً»، عكس الأوَّل، ووجهه ظاهرٌ(7)؛ وهو أن يكون «الحربُ» مبتدأ «وفتيَّة» خبره(8)، و«أوَّل ما تكون» ظرفٌ عامله الخبر و«تكون» ناقصةٌ، أي: الحرب في أوَّل أحوالها فتيَّةٌ.
          الثَّالث: رفع «أوَّل» و«فتيَّة» على أنَّ الحرب مبتدأٌ، و«أوَّل» بدلٌ منه، و«فتيَّة» خبرٌ، و«ما» مصدريَّةٌ، و«تكون» تامَّةٌ، أو «أوَّل» مبتدأٌ ثانٍ، و«فتيَّة» خبره، وأنَّث الخبر مع أنَّ المبتدأ الذي هو «أوَّل» مذكَّرٌ؛ لأنَّه مضافٌ إلى الأكوان.
          الرَّابع: نصبهما جميعًا على أنَّ «أوَّل» ظرفٌ، وهو خبر المبتدأ الذي هو «الحرب» و«تكون» ناقصةٌ، و«فتيَّةً» منصوبٌ على الحال من الضَّمير المستكنِّ في الظَّرف المستقرِّ، أي: الحرب موجودةٌ في أوَّل أكوانها على هذه الحالة، والخبر عنها قوله: (تَسْعَى) أي: الحرب في حال ما هي فتيَّةٌ _أي: في وقت وقوعها_ تغرُّ من لم يجرِّبها حتَّى يدخل فيها؛ فتُهلِكه (بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ) بكسر الزَّاي وسكون التَّحتيَّة بعدها نونٌ ففوقيَّةٌ، ورواه سيبويه بموحَّدتين، فزايٍ مشدَّدةٍ مفتوحةٍ ففوقيَّةٍ(9)، والبزَّة: اللِّباس الجيِّد (حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ) بالشِّين المعجمة والعين المهملة، أي: هاجت، و«إذا» شرطيَّةٌ، وجوابها «ولَّت» أو محذوفٌ؛ كما في «المصابيح»، ويجوز أن تكون ظرفيَّةً (وَشَبَّ) بفتح المعجمة والموحَّدة المشددة (ضِرَامُهَا) بكسر الضَّاد المعجمة، بعدها راءٌ فألفٌ فميمٌ: اتَّقد وارتفع اشتعالها (وَلَّتْ) حال كونها (عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ) بالحاء المهملة، أي: لا يرغب أحدٌ في تزوُّجها(10)، و(11) يُرْوى بالخاء المعجمة (شَمْطَاءَ) بالنَّصب، نعتٌ لـ «عجوزًا»، والشَّمط _بفتح الشِّين المعجمة_: اختلاط الشَّعر الأبيض بالشَّعر الأسود (يُنْكَرُ) بضمِّ التَّحتيَّة وفتح الكاف (لَوْنُهَا) ولأبي ذرٍّ: ”تُنكَر“ بالفوقيَّة بدل التَّحتيَّة، أي: تبدَّلت بحسنها قبحًا (وَتَغَيَّرَتْ) حال كونها (مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ) لأنَّها في هذه الحالة مظنَّةٌ للبخر، فوصفها به؛ مبالغة في التَّنفير منها، والمراد: أنَّهم يتمثَّلون بهذه الأبيات؛ ليستحضروا ما شاهدوه وسمعوه من حال الفتنة؛ فإنَّهم يتذكَّرون بإنشادها ذلك، فيصدُّهم عن الدُّخول فيها حتَّى لا يغترُّوا بظاهر أمرها أوَّلًا.


[1] في (ع): «عساكر»، وليس بصحيحٍ.
[2] قوله: «الحرب: مؤنَّثة... يُذكَّر الحرب» سقط من (د).
[3] قوله: «مشدَّدةً، قال في المصابيح... ونصب فتيَّةً» سقط من (ص).
[4] في (ع): «الحرب».
[5] في (ع): «خبرالمبتدأ الثَّاني».
[6] في غير (ص) زيادة: «إذ أو».
[7] «عكس أوَّل، ووجهه ظاهرٌ»: سقط من (ل) و(د).
[8] في (ب) و(س): «خبره فَتيَّةٌ».
[9] «ففوقيَّة»: مثبتٌ من (د) و(س).
[10] في (د) و(ص) و(ع): «تزويجها».
[11] في (ب) و(س): «لا».