التلويح شرح الجامع الصحيح

باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به

          ░109▒ بَابُ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَاءِ الإِمَامِ وَيُتَّقَى بِهِ
          ذكر حديث الأعرج، عن أبي هريرة: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ» [خ¦2956].
          قال: وبهذا الإسناد: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَعَدَلَ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ».
          قال ابن بطال: في رواية: «فَإنَّ عَلَيه مِنْهُ وِزْرًا» / . قال ابن المنير: وجه مطابقة الترجمة لقوله: (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ) أنَّ معنى قوله: (يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ) أي: من أمامه، فأطلق الوراء على الأمام؛ لأنَّهم وإن تقدَّموه في الصورة فهم أتباعه في الحقيقة، والنَّبيُّ صلعم تقدَّم على غيره بصورة الزَّمان، لكن المتقدَّم عليه مأخوذ عليه العهد أن يؤمن به وينصره كآحاد أمته وأتباعه، فهم في الصُّورة أمامه، وفي الحقيقة أتباعه وخلفه. انتهى.
          قد بيَّنَّا في كتاب الطهارة أنَّ البخاري مراده بهذا أن يأتي بصيغة روايته لنسخة الأعرج، فإنَّ أوَّل حديث فيها: «نَحْنُ الآخِرُونَ».
          قال الخطابي: كانت قريش ومن يليهم من العرب لا يعرفون الإمارة، ولا يُطيعون غير رؤساء قبائلهم، فلما وُلِّيَ عليهم في الإسلام الأمراء أنكرته نفوسهم، وامتنع بعضهم من الطَّاعة، وإنَّما قال لهم صلعم هذا القول ليعلِّمهم أنَّ طاعة الأمراء مربوطة بطاعته، وأنَّ من عصاهم فقد عصى أمره؛ ليطاوعوا الأمراء الذين كانوا يولِّيهم عليهم.
          قال: وإذا كان إنَّما وجبت طاعتهم لطاعة رسول الله صلعم، فخليق ألا تكون طاعة من كان منهم مخالفًا لرسول الله صلعم فيما يأمر به واجبة.
          قال القرطبي: وليس هذا الأمير خاصًّا بمن باشره سيِّدنا رسول الله صلعم بتولية الإمارة، بل هو عامٌّ في كلِّ أمير عدل للمسلمين، ويلزم منه نقيض ذلك في المخالفة والمعصية.
          قوله: (إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ) أي: كالسَّاتر؛ لأنَّه يمنع العدوَّ من أذى المسلمين، ويمنع النَّاس بعضهم من بعض.
          ومعنى: (يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ) أي: يقاتل معه الكفَّار والبغاة وسائر أهل الفساد.
          والتَّاء في قوله: «يُتَّقَىْ بِهْ» مبدلة من الواو؛ لأنَّ أصلها من الوقاية.
          قال الخطابي: وفيه كالدَّليل إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف بأنَّ من أطاعهم في أمرٍ، ثم تبيَّن له خطؤهم فيما أمروه من ذلك أنه معذور، وأنَّ التَّبعة على الآمر، وهو شبيه بما قاله الشعبي.
          قال: ويحتمل أن يكون أراد به جُنَّة في القتال، وفيما يكون منه في أمره دون غيره.
          قال المهلب: معنى «يُتَّقَىْ بِهْ» / أي: يرجع إليه في الرَّأي والمشورة، وغير ذلك، ممَّا لا يجب أن يقضى فيه إلا برأي الإمام وحكمه، ويتَّقى به الخطأ في الدين، والعمل من الشُّبهات وغيرها.
          وذكر بعضهم أنَّ قوله: (يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ) عند العلماء على الخصوص، وهو في الإمام العدل، فمن خرج عليه وجب على جميع المسلمين قتاله مع الإمام العدل؛ نصرة له، إلَّا أن يرى الإمام كما رأى عثمان من القعود، فطاعتة واجبة، إلا أنَّ الخارجين عليه إن قتلوه في غير قتال اجتمعت فيه الفئتان للقتال أو قتلوا غيره؛ فإنَّ القصاص يلزمهم، بخلاف قتلهم لأحدهم في حال الملاقاة للفئتين، ولذلك استجاز المسلمون طلب دم عثمان ☺؛ إذ لم يكن قتله عن ملاقاة.
          وإن كان الإمام غير عدل فالواجب عند العلماء من أهل السنَّة ترك الخروج عليه، وأن يقيموا معه الحدود، والصَّلوات، والحج، والجهاد، وتؤدَّى إليه الزَّكوات، فمن قام عليه متأوِّلا بمذهب خالف فيه السنَّة، أو لجور، أو لاختيار إمام غيره سُمِّي فاسقًا ظالمًا عاصيًا في خروجه لتفريقه جماعة المسلمين، ولما يكون في ذلك من سفك الدِّماء.
          فإن قاتلهم الإمام الجائر لم يقاتلوا معه، ولم يجز أن يسفكوا دماءهم في نصره، وقد رأى كثير من الصحابة ترك القتال مع عليٍّ، ومكانه من الدين والعلم ما لا يخفى، ولم ير عليٌّ مَن قعد عن القتال معه ذنبًا يوجب سخطه، وإن كان قد دعا بعضهم فأبوا أن يجيبوه فعذرهم.
          وقوله: (وَإِن قَالَ بِغَيرِهِ) قال الخطَّابي: (قَالَ) هنا بمعنى: حكم. يقال: قال الرَّجل واقتال: إذا حكم.
          قال: وقيل: إنَّه مشتقٌّ من اسم القَيْل الذي يعقد قوله وحكمه.
          وذكر في (بَابِ البَيْعَةِ فِي الحَرْبِ أَنْ لَا يَفِرُّوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى المَوتِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}[الفتح:18]) حديثَ نَافِعٍ، عن ابْن عُمَرَ، وهو ممَّا تفرَّد به البخاري: «رَجَعْنَا مِنَ العَامِ المُقْبِلِ فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللهِ»، قال جويرية: فَسَأَلْتُ نَافِعًا: عَلَى أي: شَيْءٍ / بَايَعَهُمْ، عَلَى المَوْتِ؟ قَالَ: «لَا، بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ». انتهى [خ¦2958].
          ذكر البخاري وغيره أنَّ المبايعة كانت بالحديبية على الموت، قال الإسماعيلي: هذا من قول نافع في البيعة ليس بمسند.
          وقال ابن المنير: وجه مطابقة الآية الكريمة للتَّرجمة قوله في أثنائها: {فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِم}[الفتح:18] مبنيًّا على قوله: {فَعَلِمَ مَاْ فِيْ قُلُوْبِهِمْ}[الفتح:18]، فالسَّكينة الثُّبوت والطُّمأنينة في موقف الحرب، دلَّ ذلك على أنَّهم أضمروا في قلوبهم الثُّبوت، وأن لا يفرُّوا؛ وفاء بالعهد. انتهى.
          لقائل أن يقول: لمَّا ذكر البخاري في التَّرجمة عن بعضهم المبايعة على الموت استدلَّ على ذلك بالآية الَّتي فيها المبايعة تحت الشجرة، وكانت البيعة بالحديبية تحت الشَّجرة على الموت، وأورد الأحاديث في الباب التي تدلُّ على ذلك وعلى الصَّبر، والصبر يجمع المعاني كلَّها، وبيعة الشَّجرة إنَّما هي على الأخذ بالشدَّة، وأن لا يفروا أصلًا، ولا بدَّ من الصَّبر إمَّا إلى فتح، وإمَّا إلى موت.
          قال المهلَّب: ووقع في بعض الألفاظ: «ألَّا نَفِرَّ»، فهو نفس القصَّة التي وقعت عليها المبايعة، وهو معنى الصَّبر، وقول نافع: «عَلَى الصَّبرِ» كراهية لقول من قال بأحد الطريقين: الفتح أو الموت، فجمع نافع المعنيين في كلمة الصبر.
          وقوله: (فَمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ وكَانَتْ رَحْمَةً) يعني: خشية أن تعبد، أو تصير كالقبلة والمسجد، لمن لا يتمكن الإسلام من قلبه لجهل أو شبهة.
          وفي بعض الروايات: «خَفِيَ عَلَيهِم مَكَانُهَا فِي العَامِ المُقبِل».
          وحديث ابن زيد: «لَا أُبَايِعُ أَحَدًا عَلَى المَوتِ بعد النبي» يدلُّ أنَّهم كانوا بايعوه على الموت.
          وأمَّا بيعة الحرَّة _حرة زهرة_ فكانت سنة ثلاث وستِّين كذا ذكره السُّهيلي، والَّذي عند الواقدي وأبي عبيد والحازمي وغيرهم: هي حرَّة واقم، أطم شرقي المدينة.
          قال الشَّاعر:
فَإِنْ تَقْتُلُونَا يَوْمَ حَرَّةِ وَاقِمٍ                     فَنَحْنُ عَلَى الإِسْلَامِ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ
          وقد أَفردَ في أمرها تصنيف المدائني وغيره، وسببها أنَّ عبد الله ابن حنظلة وغيره من أهل المدينة وفدوا إلى يزيد فرأوا منه ما لا يصلح، فرجعوا إلى المدينة، فخلعوه وتابعوا ابن الزُّبير، فأرسل إليهم يزيدُ مسلمَ بن عقبة المعروف / بمُسرف فأوقع بأهل المدينة وقعة عظيمة، قتل من وجوه النَّاس ألفًا وسبعمئة، ومن أخلاط النَّاس عشرة آلاف سوى النِّساء والصِّبيان.
          قال ابن السَّيِّد: والحرَّة في كلامهم: كل أرض ذات حجارة سود محرقة، والحرار في بلاد العرب كثيرة، وأشهرها ثلاث وعشرون حرَّة، قاله ياقوت.
          وذكرَ في: (بَابِ عَزْمِ الإِمَامِ عَلَى النَّاسِ فِيمَا يُطِيقُونَ) حديثَ ابن مسعود الذي تفرَّد به البخاري وسأله رجلٌ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا مُؤْدِيًا نَشِيطًا، يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِي المَغَازِي، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لَا نُحْصِيهَا [خ¦2964]؟
          (المُؤَدِّي): يعني ذا أداة للحرب كاملة، ولا بدَّ من الهمز؛ إذ لولاه لكان: من أددي، إذا هلك، وقال الدَّاودي: يعني قويًّا متمكِّنًا.
          وقوله: (نُحصِيهَا) أي: لا نطيقها من قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ}[المزمل:20] قال: ويحتمل أن يريد: لا ندري هل هي طاعة أو معصية؟
          وقوله: (فَعَسَى أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَيْنَا إِلَّا مَرَّةً) يقول: فافعلوا كذلك مع العدل.
          وقول ابن مسعود: (مَاْ غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا) يريد: ما بقي، قال الله جلَّ وعزَّ: {إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ }[الشعراء:171].
          وقال الدَّاودي: يريد: ما مضى، وقال بعض أهل اللُّغة: غَبَرَ من الأضداد، يقع لما مضى ولما بقي.
          وقال قوم: الماضي غابر، والباقي غبر.
          قال ابن الجوزي: وهو بالماضي هنا أشبه؛ لقوله: ما أذكر.
          و(الثَّغْبُ): الماء المستنقع في الموضع المطمئن، والجمع ثغاب، شبَّه باقي الدنيا بباقي غدير، ذهب صفوه وبقي كدره.
          قال القزَّاز: ثَغْبٌ وثَغَبٌ، والفتح أكثر من الإسكان.
          وفي «المنتهى»: بالتَّحريك أفصح، وهو موضع الماء، وقيل: هو الغدير الَّذي يكون في غلظ من الأرض، أو في ظل جبل، لا يصيبه حرُّ الشمس فيبرد ماؤه.
          يريد عبدُ الله: ما ذهب من خير الدنيا وبقي من شرِّ أهلها، والجمع ثُغبان وثِغبان، مثل شَيثَ وشِيثان، وحَمَلٌ وحُمْلان، ومن سكَّن قال: ثِغاب.
          وفي «المحكم»: هو بقيَّة الماء العذب في الأرض، وقيل: هو أخدود تحتفره المسايل من عَلِ، فإذا انحطَّت حفرت أمثال القبور والدِّبار، فيمضي السَّيل عنها ويغادرُ الماءَ فيها، فتصفقه الرِّيح فليس شيء أصفى منه ولا أبرد، فسُمِّي الماء بذلك / المكان.
          وقيل: كلُّ غدير ثغب، والجمع أثغاب.
          وقال ابن الأعرابي: الثغب ما استطيل في الأرض مما تبقى من السَّيل، إذا انحسر تبقى منه في خدٍّ من الأرض والماء بمكانه ذلك ثغب.
          قال: واضطُرَّ شاعرٌ إلى إسكان ثانيه فقال:
. . . . .. . . . . . . . . . . . .                      وفي يدي مثلُ ماء الثَّغْب ذو شُطَب
          وقال سيبويه: الثَّغْب، بسكون الغين: الغدير، والجمع ثغبان. والثغب على وزن ..... والجمع ثغبان.
          وقال المهلب: هذا الحديث يدلُّ على شدة لزوم النَّاس طاعة الإمام ومن يستعمله.