التلويح شرح الجامع الصحيح

باب ما يذكر من شؤم الفرس

          ░47▒ بَابُ مَا يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الفَرَسِ
          ذكر حديث شُعَيْب، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن سَالِم، عن ابنِ عُمَرَ، أنه صلعم قال: «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الفَرَسِ، وَالمَرْأَةِ، وَالدَّارِ» [خ¦2858].
          وحديث سهل بن سعد «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ، فَفِي المَرْأَةِ / ، وَالفَرَسِ، وَالمَسْكَنِ» [خ¦2859].
          وروى الترمذي الأول من حديث سفيان عن الزهري، عن سالم وحمزة عن أبيهما، قَالَ: وروى مالك هذا الحديث عن الزهري فقال: عن سالم وعن آخر.
          ورواه أبو عمر عن طريق معمر، عن الزهري، فقال: عن سالم أو عن حمزة أو كليهما _شك معمر_ وفي آخره قَالَ: قالت أم سلمة: والسيف.
          قال أبو عمر: وقد روى جويرية، عن مالك، عن الزهري أن بعض أهل أم سلمة _زوج النبي صلعم_ أخبره أن أم سلمة كانت تزيد: السيف. يعني في حديث الزهري، عن حمزة وسالم في الشؤم.
          وروينا في كتاب «الحلية» من حديث يحيى بن عبيد الله البابلتي: حدَّثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن حبيب بن عبيد، عن عائشة قال رسول الله صلعم: «الشؤم سوء الخلق».
          قَالَ أبو نعيم: تفرَّد به عن حبيبٍ ابنُ أبي مريم.
          قال أبو عمر: وكانت عائشة تنكر الشؤم، وتقول: إنما حكاه رسول الله صلعم عن أهل الجاهلية وأقوالهم.
          ثم ذكر من طريق الوليد بن مسلم، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث أن النبي صلعم قَالَ: «إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة»، فذكرت كلمة معناها أنه غلط، ولكن رسول الله صلعم كان يقول: «أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة».
          قال: ومن حديث زهير بن معاوية، عن عتبة بن حميد: حدَّثني عبيد الله بن أبي بكر، سمع أنسًا: قال رسول الله صلعم: «لا طيرة، والطيرة على من تطير، وإن تكن في شيء ففي الدار والمرأة والفرس».
          وعند مسلم: عن جابر: «إن كان في شيء ففي الربع والفرس والمرأة»، يعني: الشؤم.
          قال القرطبي: الشؤم نقيض اليمن، وهو من باب الطيرة،
          قال: وتخيل بعض أهل العلم أن التطير بهذِه الأشياء من قوله: «لا طيرة»، وأنه مخصوص بها، فكأنه قَالَ: لا طيرة إلا في هذِه الثلاثة، فمن تشاءم بشيء منها نزل به ما كره من ذلك، وممن صار إلى هذا القول ابن قتيبة، وعضد هذا ما رُوِيَ من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «الطيرة على من تطيَّر».
          وقال أبو عبد الله: حمل مالك الحديث على ظاهره، ولم يتأوله، فذكر في «العتبيَّة»: ربَّ دار سكنها قومٌ، فهلكوا، وآخرون بعدهم، فهلكوا.
          ويعضده أيضًا / حديث يحيى بن سعيد: جاءت امرأة إلى النبي صلعم فقالت: يا رسول الله، دار سكناها والعدد كثير، والمال وافر، فقلَّ العدد، وذهب المال، فقال صلعم: «دعوها ذميمةً».
          قال القرطبي: ولا تظن بمن قال هذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذِه الثلاثة الأشياء على نحو ما كانت الجاهلية تعتقد فيها، فإنها كانت لا تقدم على ما تطيرت به، ولا تفعله بوجه، بناء على أن الطيرة تضر قطعًا، فإن هذا ظن خطأ، وإنما يعني بذلك أن هذِه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها.
          فمن وقع في نفسه شيء من ذَلِكَ فقد أباح الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه، ويسكن خاطره له، ولم يلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه أو امرأة يكرهها؛ بل قد فسح له في ترك ذلك كله، لكن مع اعتقاد أن الله جلَّ وعزَّ هو الفعال لما يريد، وليس لشيء من هذِه الأشياء أثر في الوجود، وهذا على نحو ما ذكر في المجذوم.
          قال: فإن قيل: هذا يجري في كل شيء متطير به، فما وجه خصوصية هذِه الثلاثة بالذكر؟
          فالجواب: ما نبهنا عليه من أن هذه الضرورية في الوجود، لابد للإنسان منها ومن ملازمتها غالبًا، فأكثر ما يقع التشاؤم به، فخصها بالذكر لذلك.
          فإن قيل: ما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء الذي منع من الخروج منه؟
          فالجواب: ما قاله بعض أهل العلم: إن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام:
          حدها: ما لم يقع التأذي به ولا اطردت عادته به خاصة ولا عامة، لا نادرة ولا متكررة، فهذا لا يصغى إليه، وقد أنكر الشرع الالتفات إليه كتلقي غراب في بعض الأسفار، أو صراخ بومةٍ في داره، ففي مثل هذا قَالَ صلعم: «لا طيرة ولا تطير» رواه الترمذي من حديث ابن عمر، وصححه، بسند صحيح عند ابن ماجه عن ابن عباس: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة» وكذا رواه أبو قتادة، وجابر، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، والسائب بن يزيد، وبريدة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو أمامة الباهلي، وعبد الله بن زيد، وحابس التميمي، وأم سلمة، وعلي بن أبي طالب، ذكرها أبو محمد / بن عساكر في كتاب «تحقيق المقال في الطيرة والفال»، الذي أخبرنا بجميعه أبو المحاسن الحسني قراءة عليه: أخبرنا أبو الفتح عبد الحق القُضَاعي عنه سماعًا، وهذا القسم هو الذي كانت العرب تعتبره وتعمل به، مع أنه ليس في لقاء الغراب، ولا دخول البومة دارًا ما يُشعر بتأذي ولا مكروه، لا بوجه ندور ولا التكرار.
          ثانيها: ما يقع به الضرر ولكنه يعمُّ، ولا يخصُّ، ويندر ولا يتكرَّر، كالوباء، فهذا لا يُقْدَمُ عليه؛ عملًا بالحزم والاحتياط، ولا يفرُّ منه لإمكان أن يكون قد وصل الضرر إلى الفارِّ، فيكون سفره زيادة في محنته، وتعجيلًا لهلكته.
          ثالثها: سببٌ يخصُّ ولا يعم، ويلحق منه الضرر بطول الملازمة، كالدار والفرس، والمرأة، ويباح له الاستبدال، والتوكُّل على الله، والإعراض عما يقع في النفوس منها من أفضل الأعمال.
          قال: وقد سلك العلماء في تأويل هذا الحديث أوجهًا، منها:
          أن شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها، أو أن لا يسمع فيها أذان، وشؤم المرأة عدم ولادتها، وسلاطة لسانها، وتعرضها للريب، وشؤم الفرس ألا يُغزى عليها، وغلاء ثمنها، وشؤم الخادم سوء خلقه، وقلة تعهده لما فوِّض إليه.
          قال ابن العربي: وردت الألفاظ في هذا على ثلاثة أنحاء:
          الأول: إن كان الشؤم ففي كذا.
          الثاني: الشؤم في كذا.
          الثالث: إنما الشؤم في كذا.
          والمعنى كله واحد؛ أما قوله: «إن كان»، فالمعنى: إن خلقه الله فيما جرى في نقض العادة به، فإنما يخلقه في الغالب في هذِه الثلاث.
          وقوله: «إنما» فهو حصر للشؤم في هذه الثلاثة، وهو حصر عادة لا خلقة، فإن الشؤم قد يكون بين الاثنين في الصحبة، وقد يكون في السفر، وقد يكون في الثوب يستجده، والعبد، ولهذا قَالَ صلعم: «إذا لبسَ أحدكم ثوبًا جديدًا فليقل: اللَّهُمَّ إني أسألك خيره وخير ما صُنِعَ له، وأعوذ بك من شرِّهِ وشرِّ ما صُنِعَ له».
          قال الخطابي: المراد إبطال مذهبهم في التطير بالسوانح / والبوارح، ويكون مجْرى الحديث مجْرى استثناء الشيء من غير جنسه، وسبيله سبيل الخروج من شيء إلى غيره.
          قَالَ بعض العلماء: وقد يكون الشؤم هنا على غير المفهوم من معنى التطير، لكن بمعنى قلة الموافقة وسوء الطباع، كما في الحديث: «من سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقوته: المرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن السوء».
          رواه أحمد في «مسنده» من حديث إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن جده.
          ومن حديث معاوية بن حكيم، عن عمه حكيم بن معاوية: سمعت النبي صلعم يقول: «لا شؤم، وقد يكون اليمن في المرأة والدار والفرس».
          وروى يوسف بن موسى القطان: حدثَنَا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه يرفعه: «البركة في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار».
          وسُئِلَ سالم عن معنى هذا الحديث فقال: قَالَ رسول الله صلعم: «إذا كان الفرس حَرونا فهو مشؤوم، وإذا كانت المرأة قد عرفت زوجًا قبل زوجها فحنَّت إلى الزوج الأول فهي مشؤومة، وإذا كانت الدار بعيدة من المسجد لا يسمع فيها الأذان والإقامة فهي مشؤومة، وإذا كن بغير هذا الوصف فهن مباركات».
          قال أبو عمر: يحتمل أن يكون قوله: «الشؤم في ثلاثة» كان في أول الإسلام ثم نُسِخَ ذَلِكَ وأبطله قوله جلَّ وعزَّ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}[الحديد:22].
          وسيأتي في كتاب النكاح طرف من هذا، وفي كتاب الطب.
          وذكر البخاري في حديث جمل جابر المتقدم في كتاب الصلاة: «وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ لِي أَرْمَكَ، لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ» [خ¦2861].
          قال أبو عبيد عن الأصمعي: الأرمك لون يخالط حمرته سواد، ويقال: بعير أرمك، وناقة رمكاء.
          وعن ابن دريد: الرَّمك: كلُّ شيء خالطت غبرته سوادًا كدرًا.
          وفي كتاب «الكفاية» لأبي إسحاق بلدينا: وقال حُنَيفُ الحَنَاتِم: الحَمْرَاءُ: صُبْرَى، والرَّمْكَاءُ: بُهْيَا / ، والخَوَّارَةُ: غُزْرَى، والصَّهْبَاءُ: سُرْعَى.
          وقيل: الرمكة الرماد.
          قال ابن قُرْقُول: ويقال: أربك بالباء الموحدة أيضًا، والميم أشهر.
          وقوله: (لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ) أي: لمعة من غير لونه.
          وعن قتادة في قوله تعالى: {لَا شِيَةَ فِيهَا}[البقرة:71] أي: لا عيب.
          وقوله: (إِذْ قَامَ عَلَيَّ الجَمَلُ). أي: وقف من الإعياء والكلال، قَالَ الله جلَّ وعزَّ: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}[البقرة:20] قال المفسرون: معناه: وقفوا.
          قال ابن المنذر: واختلفوا في المكتري يضرب الدابة فتموت، فقال مالك: إذا ضربها ضربًا لا تضرب مثله، أو حيث لا تضرب ضَمِن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، قالوا: إذا ضربها ضربًا يضربها صاحبها مثلَه، ولم يتعدَّ فليس عليه شيء. واستحسن هذا القول أبو يوسف ومحمد.
          قال الثوري وأبو حنيفة: هو ضامن إلا أن يكون أمره بضربها.